*في دارفور توجد ثورة تحريرية عظمى، لكن ربما لم تطور لها قيادة ملهَمة بعد*
كتب: محمد جلال أحمد هاشم
.
طالعتنا الأسافير بمقال منسوب لصديقتنا الأستاذة رشا عوض تحت عنوان: *”لا وجود لثورة مسلحة في دارفور أصلا”*، ما يعني “بالمرة”!
وعنوان المقال مُلبِس من عدة وجوه. إذ ما الذي تعنيه بجملة “ثورة مسلحة”؟ ولهذا، تلافيا منا لهذه المُلبسات، سوف نتناول ما سكت عنه المقال، بأكثر من أن نتعرض لما ذكره.
هناك خطأ منهجي فيما تقوله صديقتنا الأستاذة رشا عوض بخصوص دارفور. فهي تبدأ بضرورة تشخيص الواقع في دارفور بتجرد، لكنها تفشل في هذا. فالتشخيص يبدا بتوصيف ما عليه الأمر على أرض الواقع. وليس أدل على هذا من أنها مهتمة بفشل نخب دارفور في لعب دورهم أكثر من اهتمامها بتوصيف ما حدث في دارفور، ولا يزال يحدث، مما لا يمكن تصنيفه بخلاف أنه مأساة حية من جانب الضحابا، وجرائم ضد الإنسانية من جانب الجناة، وعار وطني كبييير من جانب الشعب السوداني، هذا لو أنه لا يزال هناك شعب سوداني في ظل التشظي ومخايل انهيار مؤسسة الدولة.
يا أستاذة رشا عوض، دارفور الآن ولثلاثين عاما تنزف حريقا وتقتيلا، لدرجة أننا الآن لدينا ما يقرب (وربما يتجاوز) عدد ثلاثة ملايين لاجئ في تشاد بجانب ثلاثة ملايين نازح داخل دارفور، بجانب ما يقرب (حتى الآن) من مليون قتيل (على أقل تقدير)، جميعهم من المجموعات التي يقال لها “الزرقة”، بمعنى الأفريقية السوداء. كيف حدث هذا؟ حدث بموجب خطة حكومية محكمة لإعادة هندسة الخريطة الديموقرافية لمجتمع دارفور بحيث يتم القضاء على العنصر الأفريقي غير العربي هناك. هذا كما لو كان في دارفور عرب من أصله، إذ جميعهم أفارقة سود، منقسمين ما بين مستعربين وآخرين لمّا يستعربوا بعد. بدأت هذه الجرائم منذما قبل مجيء نظام الإنقاذ (المذابح المنظمة خلال حرب الجنوب ومذبحة الضعين)، حيث تلتها في فترة دولة الإنقاذ المارقة تحول المذابح في حروب الجنوب وجبال النوبة وإقليم الفونج إلى جهاد تقوده الدولة المارقة ضد قطاعات من شعبها.
ثم بدأت أزمة دارفور، تحديدا في عام 1992م، وكان مهندسها وعرابها هو الترابي، وهو وقتها مؤلف السيناريو والمخرج الذي يدير فيلم دولة الإنقاذ دون أن يظهر في الفيلم. إنها خطة حكومية للتطهير العرقي لا تزال فصولها تدور حتى الآن، وليس أدل على ذلك من الاعتراف الرسمي، والترفيع الرسمي، للمليشيات المستجلبة من دول الجوار الغربي للعب هذا الدور القذر، ممثلة في مليشيا الجنجويد وقيادتها الإثنية، الأسرية، ممثلة في آل دقلو التشاديين.
هذه هي النقطة الجوهرية والمفتاحية لأي إنسان يريد تشخيص الواقع في دارفور بتجرد، انطلاقا من توصيفه بأمانة وشجاعة. ولكن الأستاذة رشا عوض تركت كل هذا ومرت فوقه مرور الكرام، دون أن تذكره ولو من باب ذر الرماد في العيون.
وكذلك أخطأت الأستاذة رشا عوض في سردها لحقائق يعلمها الجميع، كلنا عايشناها، ألا وهي أن جون قرنق والحركة الشعبية لا علاقة لهم بتأسيس أو قيادة الحركات الدارفورية المسلحة التي ظهرد في عام 2002م لمواجهة خطط دولة الإنقاذ للتطهير العرقي في دارفور. فبخلاف محاولة بولاد، لم يكن للحركة الشعبية أي يد مباشرة في تشكيل أو قيادة الحركات المسلحة التياد انطلقت من دارفور. وتراتب هذه الأحداث إن كانت له دلالة واضحة، فهي أنه كان ولا بد لسياسات التطهير العرقي والإبادة التي كانت تتبعها دولة الإنقاذ أن تدفع بالناس إلى حمل السلاح ضد دولة الإنقاذ المارقة. وليس أدل على ذلك من أن أول من سعى إلى حمل السلاح كان هو بولاد نفسه، ذلك الشخص الذي قضي شبابه وهو عضو منظم وقيادي في تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي. وقد تم قتله بطريقة وحشية وخارج إجراءات القانون والترابي وقتها على سدة قيادة دولة الإنقاذ المارقة.
نعم، يجوز القول بأن هذه الحركات قد فشلت في أن ترتفع لمستوى أزمة دارفور إلى آخر كل التهم التي، وإن طالت النخب، إلا أنها لا يمكن أن تطول ثورية القضية نفسها. فكل هذا لا ينفي أن جميع العوامل الموضوعية لقيام ثورة تحريرية مسلحة قد توفرت في دارفور. ولكن ماذا تُرانا نعني بجملة “قضية دارفور”؟ فهذه ليست مشكلة دارفور، ذلك حتى ننسب لأهلها فشل نخبهم في حسن إدارة الازمة. ولعل من أكبر الأسباب في فشل إدارة هذه الأزمة هو “درفنتُها” Darfurizing it، بمعنى حصرها على دارفور وعلى أهل دارفور، ما يعني عمليّاً تجريدها من بعدها الوطني، من قبيل ما تفعله هنا صديقتنا رشا عوض. فما حدث في دارفور ولا يزال يحدث إلى الآن هو عار وطني يفترض أن يمس أي سوداني، ذلك لأن ما حدث هناك (ولا يزال يحدث) لهو مما يندى له الجبين، وتتوارى دونه الأنظار. لهذا فقد عمّنا الأسفُ، كما غمّنا، أن يصدر مثل هذا الكلام من صديقتنا رشا عوض، كونه ينُمُّ (في أحسن حالاته) عن انعدام لأي حساسية تجاه ثلاثة ملايين لاجئ وثلاثة ملايين نازح، بينهما مليون قتيل، فضلا عن مئات الآلاف من المنازل والقرى المحروقة. فكل هذا سقط من كشف الحساب الذي قدمته صديقتنا رشا عوض، دون أن تذكره من باب توصيف الحالة على الأرض. وليت كل ما حدث في دارفور (ولا يزال يحدث إلى الآن) كان خبرا جاء به الرواة، لكنه كان (ولا يزال) أشبه بفيلم وثائقي جمييييعُنا شاهدناه (ولا نزال)، صورة وصوت، وبالألوان كمان.