الاختراق الدبلوماسي الأول… عن الصين وأهدافها في الشرق الأوسط

0 69

كتب: د. عمرو حمزاوي

.

إذا كان الهدف الصيني من التوسط بين السعودية وإيران لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية وإعلان التزامهما المتبادل بعدم التدخل في شؤون الغير هو الحد من الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط، فإن إنجاز هذا الهدف سيرتبط بمدى استعداد قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تغيير سياساتهم تجاه اليمن والعراق ولبنان وسوريا ومنطقة الخليج بجدية وفاعلية.
أشعلت إيران بدعمها للحوثيين فتيل الحرب الأهلية في اليمن. وتواصل الضغط على القوى الشيعية في العراق لإبعاد بلاد الرافدين عن محيطها العربي والإبقاء على أوضاعه الداخلية دون استقرار يمكن من حل أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتتدخل من خلال حزب الله لفرض حليفها المسلح طرفا مهيمنا على السلطة التشريعية والتنفيذية ومسيطرا على حياة سياسية طائفية وفاسدة وفاشلة أوصلت المجتمع اللبناني إلى الهاوية. ولا تملك في سوريا غير تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للحكومة المتحالفة معها، وتوظف أراضيها لزيادة أوراقها الاستراتيجية في الصراع المستمر مع إسرائيل. وفيما خص الخليج الذي تنظر إليه طهران في سياق الصراع مع السعودية من جهة والصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية كمنطقة لمد نفوذها الإقليمي ومناوئة وجود واشنطن العسكري وتحالفاتها السياسية، لم تتورع الجمهورية الإسلامية عن تهديد أمن الخليج وكانت الهجمات التي نفذها الحوثيون على مصافي النفط السعودية في 2019 دليلا بينا على ذلك.
على كافة هذه الأصعدة، يتعين على إيران تغيير سياساتها بجدية وفاعلية لكي تقترب الصين من هدف الحد من الصراع في الشرق الأوسط.
وقد تكون الساحة اليمنية هي المربع رقم واحد الذي ستثبت فيه الجمهورية الإسلامية حسن نواياها وصدق تعهداتها المعلنة في اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية ومنها عدم التدخل في شؤون الغير. تستطيع طهران أن تدفع الحوثيين لقبول ترتيبات للشراكة في الحكم مع القوى اليمنية المدعومة من السعودية ودولة الإمارات، وأن تصنع من الهدنة المؤقتة (وهي مازالت قائمة على الرغم من انتهاء مدتها في خواتيم العام الماضي 2022) معاهدة سلام دائمة تنهي المأساة الإنسانية في اليمن بإنهاء الحرب الأهلية وباستعادة الاستقرار الداخلي وأمن الحدود اليمنية ـ السعودية.
وفي المقابل، تستطيع طهران أن تقدم لحليفها الحوثي دورا حكوميا في إدارة شؤون اليمن على نحو يمكن تسويقه كانتصار سياسي ودبلوماسي إيراني ويضمن للجمهورية الإسلامية نفوذا في بلدٍ ذي أهمية استراتيجية وأمنية بالغة للخليج وللعالم الغربي ولمجمل الشرق الأوسط (موقع اليمن على مدخل البحر الأحمر ودورها المحوري في السيطرة على مضيق باب المندب).
تستطيع الجمهورية الإسلامية أيضا أن تفعل التعهد المتعلق بعدم التدخل في شؤون الغير على المستوى الإقليمي في الخليج بالامتناع التام عن تكرار دفع حلفائها الإقليميين كالحوثيين للهجوم على السعودية والإمارات بالمسيرات والصواريخ وغيرها. وفي المقابل، يحق لطهران أن تحصل على تعهدات من الدول الخليجية بعدم قبول استخدام مجالاتها الجوية في عدوان إسرائيلي أو إسرائيلي أمريكي محتمل (مهما كانت تلك الاحتمالية متدنية اليوم بالنظر إلى سياسات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن) إن على المنشآت النووية الإيرانية أو على المنشآت النووية والقدرات العسكرية الإيرانية الحاضرة في أو القريبة من الخليج الذي تحضر به أيضا قواعد عسكرية أمريكية.

لكي تنجح الصين في هدفها ورهانها، يتعين على إيران التعامل بجدية مع تغيير سياساتها في المقام الأول، ويتعين على الخليج التعاطي بإيجابية في اليمن بوقف الحرب وفي الإقليم بشيء من التعاون الاقتصادي والتجاري مع إيران (دون تجاوز العقوبات الأمريكية والغربية) والتعاطي بصبر مع تغيرات مرجوة في العراق ولبنان وسوريا لا تكون سوى بطيئة وتدريجية

أما في العراق ولبنان وسوريا، فمن غير المرجح أن تنقلب إيران بالكامل وفجأة على السياسات التي تتبعها تجاه هذه البلدان العربية منذ عقود لكي تسمح باستقرار العراق ويتجاوز طائفية وفساد وفشل السياسة اللبنانية وبالبحث عن حلول سياسية في سوريا. الأكثر واقعية هو أن تسعى طهران للتقليل من مناسيب الصراعات الداخلية في البلدان الثلاثة والضغط التدريجي على حلفائها، قوى الشيعية السياسية في العراق وحزب الله في لبنان والحكومة السورية، للانفتاح على تسويات في العراق ومساومات في لبنان وحوار في سوريا تنتج مجتمعة مظاهر هدوء واستقرار.
في المقابل، يمكن لطهران أن تحصل على علاقات تجارية واقتصادية أفضل مع منطقة الخليج وهي في أمس الحاجة إلى تلك العلاقات في المرحلة الراهنة. فالأوضاع الاقتصادية والمعيشية في إيران تتحرك من سيئ إلى أسوأ على وقع العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة عليها، ويحدث ذلك بينما تتصاعد التوترات السياسية والاجتماعية في بلد سأم من القبضة المستبدة لآيات الله الذين يتحكمون في كافة مناحي المجتمع منذ ثمانينيات القرن الماضي ولم يحققوا سوى إخفاقات اقتصادية وتنموية متتالية وعداوات مع جيران إيران في الشرق الأوسط وتحالفات مع أطراف كالحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق لا يريد أحد الاقتراب منهم لسجلاتهم الإرهابية. تحتاج إيران لقناة تنفس اقتصادية وتجارية إضافية، بجانب القناة الصينية والقناة الروسية، وليس لمثل هذه القناة سوى أن تأتي من الخليج.
تحتاج الصين، إذا، لكي ينجح رهانها على توظيف اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران للحد من صراعات الشرق الأوسط إلى تغييرات كبيرة في السياسات الإيرانية.
تملك بكين في هذا الصدد الأوراق الأهم للضغط على طهران، فهي الشريك الاقتصادي والتجاري رقم واحد للجمهورية الإسلامية كما أن الطرفين يتعاونان عسكريا وتكنولوجيا واستراتيجيا. تملك بكين أيضا وزن القوة الكبرى التي تربطها بالسعودية وبقية الدول العربية في الخليج علاقات اقتصادية وتجارية متطورة للغاية، وتستطيع من ثم أن تضمن لطهران وفاء الأطراف الخليجية بالتعهدات المقطوعة فيما خص التطوير التدريجي لعلاقات التعاون مع إيران والامتناع عن التدخل في شؤونها والتعاطي البناء مع أفكار التسوية في ساحات التوتر المتنوعة في الشرق الأوسط. تملك بكين، ثالثا، مظهر القوة الكبرى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية التي تربط إيران بها علاقة عداء صريحة. وفي مواجهة واشنطن حتما سترحب طهران باتساع دور بكين السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط، وحتما سترحب بمنافستها لواشنطن فيما خص التوسط لإنجاز ترتيبات جديدة لأمن واستقرار المنطقة. فكل تجاوز للهيمنة الأمريكية المنفردة في الشرق الأوسط إن بدور متصاعد للصين أو بحضور عسكري مستمر لروسيا بعني خطر أقل على إيران، وتهديد أقل بعمليات عسكرية أمريكية محتملة ضد منشآتها النووية وقواعدها العسكرية، وفاعلية أقل لحماية أمريكا لهجوم إسرائيلي محتمل على إيران.
تملك الصين كافة هذه الأوراق، وتستطيع من ثم الضغط الفعال على إيران لتغيير سياستها، تجاه اليمن وفيما خص عدم تهديد أمن الدول الخليجية في مقام الأولويات الاستراتيجية العاجلة والتي تأتي من خلفها ملفات العراق ولبنان وسوريا. تملك الصين كافة هذه الأوراق، وتعلن من خلال وساطتها عن رغبتها في تجاوز حدود العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إيران والخليج والشرق الأوسط باتجاه الفعل السياسي والدبلوماسي لضمان أمن منطقة تستورد منها ثلثي احتياجاتها من النفط وأصبحت بمنتجاتها الشريك التجاري الأول لها بعد أن نحت عن هذا المصاف الولايات المتحدة وأوروبا. تملك الصين كافة هذه الأوراق، وتسجل من خلال الاتفاق السعودي ـ الإيراني عن جديتها التامة في لعب أدوار متصاعدة في الشرق الأوسط وترتيباته الأمنية وفي استعدادها لدفع المنطقة باتجاه تجاوز الهيمنة المنفردة للولايات المتحدة والتوافق حول ترتيبات أمنية لا تفرضها أو تضمنها واشنطن بمفردها.
ولكي تنجح الصين في هدفها ورهانها، يتعين على إيران التعامل بجدية مع تغيير سياساتها في المقام الأول، ويتعين على الخليج التعاطي بإيجابية في اليمن بوقف الحرب وفي الإقليم بشيء من التعاون الاقتصادي والتجاري مع إيران (دون تجاوز العقوبات الأمريكية والغربية) والتعاطي بصبر مع تغيرات مرجوة في العراق ولبنان وسوريا لا تكون سوى بطيئة وتدريجية، ويتعين على بقية الأطراف الفعالة في الشرق الأوسط كمصر وتركيا والجزائر الضغط نحو الحد من الصراعات الإقليمية في اتجاه «صفر صراع» لا يتجاهل القضية الفلسطينية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.