كيف وجدت المتلازمة الأردولية طريقها الى مقالة محمد جلال هاشم؟
كتبت: رشا عوض
.
حسب “المتلازمة الأردولية” لا يجوز توجيه اي نقد للفساد المستشري في الشركة السودانية للموارد المعدنية ولا للحركات المسلحة التي انحازت للانقلاب العسكري وجماعة “اعتصام الموز”، وكل من تجرأ على ذلك فهو عنصري يمارس الاستعلاء على الهامش وهو ضد المهمشين وفاقد للاحساس بما تعرضت له الاقاليم المهمشة من مجازر وابادات وتشريد ونزوح ولجوء الى اخر هذه البكائيات التي تزخر بها بوستات السيد مبارك أردول في كل “زنقة سياسية” او حصار في قضايا الفساد والمحسوبية!! وذات الامر ينسحب على اي نقد سياسي لقادة الحركات المسلحة الذين يفترضون لأنفسهم حصانة مطلقة من اي نقد عبر فزاعة الاستهداف العنصري للمهمشين.
بكل اسف وجدت هذه المتلازمة الأردولية طريقها الى مقالة للدكتور محمد جلال هاشم وهو المثقف الرفيع والباحث والكاتب المجوِّد، وقبل ذلك الأخ العزيز والصديق المحترم، ففي سياق رده على مقالتي “لا توجد ثورة مسلحة في دارفور أصلا” تهرب تماما من مناقشة الحيثيات التي أسست عليها فرضيتي (عدم وجود ثورة مسلحة في دارفور) وكل ما فعله هو الزعم الذي تضمنه عنوان مقالته : “في دارفور توجد ثورة تحريرية عظمى، لكن ربما لم تطور لها قيادة ملهَمة بعد” ولكن محمد جلال لم يشرح لنا ما هية هذه الثورة التحريرية العظمى وكيف تكون كذلك وهي باعترافه لم تطور قيادات؟ كنت اتوقع منه ان يثبت لنا ان هناك ثورة في دارفور بالمعنى المتعارف عليه لهذه المفردة ذات المدلول السياسي الواضح عبر الاجابة على اسئلتي التي طرحتها: ما هي المرجعية النظرية للثورة المسلحة في دارفور؟ ما هو المشروع السياسي والاقتصادي والتنموي المطروح هناك لرفع المظالم والتغيير الحقيقي؟ اين هي القيادات الثورية وما هو تأهيلها الاخلاقي والفني لقيادة الثورة؟ واين هي الحاضنة الاجتماعية المساندة لهذه الثورة المزعومة؟ بدلا من الإجابة على هذه الأسئلة أسرف محمد جلال في توجيه الاتهامات الصريحة والضمنية لشخصي بعدم الحساسية تجاه معاناة اللاجئين والنازحين، وإنكار ما حدث في دارفور من مآسي إنسانية ، وعدم الشجاعة والامانة في توصيف الواقع بتجرد في دارفور! فضلا عن مغالطات عجيبة مثل استنكار عبارة “قضية دارفور” التي وردت في مقالتي باعتبارها تنكر البعد الوطني للقضية!! وإنكار دور الحركة الشعبية في حرب دارفور.
وبما ان نص وروح رد محمد جلال يصب في اتجاه تجريم تساؤلاتي المشروعة جدا والتشكيك في نزاهة موقفي من قضية المهمشين، فلا بد من التفصيل في عدد من النقاط التي أثارها:
أولا: انعدام الحساسية تجاه اللاجئين والنازحين:
لقد قلت في مقالتي بالحرف الواحد”تظل قضية الهامش عادلة ومن واجب كل الاحرار والشرفاء النضال من أجل رفع المظالم التنموية ومكافحة العنصرية والتمييز ضد اقاليمنا العزيزة غربا وشرقا وجنوبا، وهذا الواجب يقتضي كشف حقيقة المحامين الفاشلين ممثلين في الحركات المسلحة.” وورد ايضا” في دارفور حروب وكالة مصنوعة أحرقت الاقليم وعذبت الأبرياء وشردتهم، ولكن لم تكن ضمن أجندة المحاربين على اختلافهم إنصاف اهل دارفور من الظلم وتغيير واقع حياتهم للأفضل.” هذه نصوص واضحة في أن محور اختلافي مع قيادات الغفلة في دارفور هو الانحياز للمهمشين ولكن المتلازمة الأردولية تهدف الى تحويل ضحايا الحروب ومآسيهم الانسانية وقضاياهم العادلة الى مجرد دروع واقية من ادنى درجات المساءلة السياسية والاخلاقية للوردات الحرب!
أنا لا احتاج لذر الرماد في العيون بترديد البكائيات النفاقية على اللاجئين والنازحين وضحايا الحروب كما يفعل مناوي وجبريل واردول! لانني أصيلة في الانحياز لهم ، وأصالتي هذه هي التي تجعل ضميري عصيا على اي تخدير آيدولوجي! هي التي تجعل معياري لتقييم اي مشروع سياسي مدني او ثورة مسلحة مزعومة هو نوع تأثيره على حياة البشر! هو مآلاته على ارض الواقع! ولذلك كفرت بكل المساخر المسلحة التي تسمونها ثورات دون وجه حق! كفرت بها مثل كفري بالإنقاذ لسبب وحيد هو انها جلبت الشقاء والعذاب للمهمشين في طول البلاد وعرضها! ولم يكن لديها اي مساهمة في تحرير او تنوير او تطوير المهمشين بل تعاملت معهم مثل دكتاتوريات المركز قمعا وقهرا ونهبا واستغلالا، بل ومجازر جماعية ترتب عليها نزوح ولجوء الملايين كما حدث في جنوب السودان! وبتجوال بسيط عبر قوقل وتقارير الامم المتحدة وحتى الاتحاد الافريقي تستطيع ان تجد من المعلومات عن جرائم حركات النهب المسلح هذه ما يثبت لك انها نسخة من عصابة الانقاذ! ومن كان نزيها في موقفه من تضحيات اهل الهامش لا بد ان يدين انتهازية الحركات المسلحة ومقايضتها لدماء وعذابات الهامش بالمناصب وغنائم السلطة.
ثانيا: توصيف الواقع بشجاعة وامانة
ليس من مقتضيات الامانة في توصيف الواقع في دارفور القبول غير المشروط والبصم بالعشرة على سردية محمد جلال هاشم للصراع هناك بكل ما فيها من تعسف! أي على أساس ان هناك عنصرا عربيا ممثلا في نظام الانقاذ يريد استئصال عنصر أفريقي تمثله الحركات المسلحة، الهوية العرقية هي أحد أبعاد الحرب ولكنها ليست البعد الوحيد، فهناك تعقيدات سياسية واقتصادية تجعل القضية مركبة وليست بهذا التبسيط الايدولوجي المريح جدا للطرفين المتحاربين في التجييش للمعارك: الانقاذ تريد فرض سردية ان العروبة في خطر والحركات المسلحة تريد فرض سردية ان العنصر الافريقي في خطر، وهنا نتساءل لو كان الأمر بهذا الشكل ولو كانت القضية فرز عرقي محض لماذا سعت حركات دارفور في اواخر عهد البشير للتحالف مع ما يسمى مجلس الصحوة الثوري بقيادة زعيم الجنجويد ذي الخلفية الكيزانية موسى هلال؟ لماذا وقعت معه الجبهة الثورية مذكرة تفاهم رغم انه قواته كانت رأس الرمح في الحريق والتقتيل والاغتصابات والفظائع؟ لماذا استوزر قادة الحركات في عهد البشير؟ لماذا تحالفت حركات دارفور مع حميدتي بعد الثورة التحالف الذي أثمر جريمة اتفاق جوبا للسلام؟ ما هو سر ذلك التحالف بين حميدتي وحركات دارفور التي هزمها في الميدان بنفسه ولكنه بعد ثورة ديسمبر ذهب اليها في تشاد وعقد معها التفاهمات واغدق على قياداتها العطايا وسيارات الدفع الرباعي وحسب علمي لم يرتفع صوت واحد في وجه مناوي او جبريل ابراهيم او مالك عقار مستنكرا الارتماء في احضان حميدتي ورافضا لقبول عطاياه استنادا لمناحات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، تلك الاسطوانات التي لا يتم اجترارها إلا لإخراس الأصوات الناقدة للوردات الحرب! ؟ لماذا نجد حركات الكفاح المسلح المزعوم في صف انقلاب البرهان وقياداتها غارقة في بزنس الذهب الملطخ بالدماء والفساد الأرعن؟ لماذا لم نسمع لهم صوتا وهم في حضن الانقلاب عن تسليم البشير واحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين لمحكمة الجنايات الدولية؟ لماذا لم تتصدر قيادات الغفلة المظاهرات المطالبة بالعدالة الانتقالية والاصلاح الأمني والعسكري؟ لماذا لم يتقدم ولا واحد منهم باستقالته من منصبه في ظل انقلاب البرهان احتجاجا على مجزرة كرينق التي قتل فيها مائتا شهيد في يوم واحد وغيرها من المجازر في الجنينة ونيالا وجنوب كردفان(ولا دبيب في خشمو جراداي ما بعضي)؟! من المخزي حقا ان تكون الاستقالة الوحيدة المسببة باسباب تخص ضحايا دارفور هي استقالة السيدة عائشة البصري الموظفة الاممية باليوناميد التي اتهمت قوات اليوناميد بالتقصير في حماية المدنيين والتواطؤ مع حكومة السودان!! وعائشة البصري مغربية الجنسية!!
وعندما كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان شريكة في سلطة “دولة الانقاذ المارقة” وأقامت الشراكات الذكية مع مهندسي الابادات والتطهير العرقي أمثال أحمد هارون لماذا لم يتهمها محمد جلال بعدم الحساسية لمعاناة النازحين واللاجئين كما اتهمني الآن لمجرد انني قلت لا توجد في دارفور ثورة وما زلت عند قولي واتحدى محمد جلال ان يثبت لي ان الممارسات العبثية المذكورة اعلاه يمكن ان تكون نتاج ثورة!!
ثالثا: حركات دارفور والحركة الشعبية
من الحقائق التاريخية الثابتة هي مساهمة الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق في تصنيع جزء من الحركات المسلحة في دارفور وتسليحها وتدريبها، حتى مسمى “حركة تحرير السودان” اقترحه جون قرنق على حركة عبد الواحد التي كانت تريد تسمية نفسها “حركة تحرير دارفور”، وكانت كوادر الحركة الشعبية تكتب لهذه الحركات بياناتها. وكانت خطة قرنق هي توسيع قاعدة مشروع السودان الجديد على اساس التمدد غربا وشرقا لإحكام الحصار على المركز، وطبعا اي حرب بمجرد اندلاعها تصبح لها دينامياتها الخاصة في التطور والاتساع والانحراف، وباستمرار تدخل على الخط اجندات إقليمية ودولية لا يملك احد كبحها او التحكم فيها.
هذه حقائق الشهود عليها أحياء، فلماذا نكتب التاريخ بانتقائية؟ مثلما غامر الترابي بتصنيع حركة مسلحة في دارفور لخدمة أهدافه في الصراع على السلطة في المركز، فعل جون قرنق ذات الشيء وصنع حركة أخرى لخدمة أهدافه في الصراع على السلطة في المركز، هذا التصنيع المتعجل للتمرد المسلح في دارفور في محصلته النهائية أحرق الإقليم، ووضع المواطنين الأبرياء هناك خصوصا من الإثنيات الأفريقية المستضعفة التي تعاني التهميش في عين العاصفة وامام فوهة مدفع الدولة الغاشمة والباطشة التي تفوق سوء الظن العريض! فدفع المهمشون في دارفور أثمانا باهظة للحرب قتلا وتشريدا وتعذيبا، ونظرا للضعف الأخلاقي والفني للحركات المسلحة رديئة الصنعة لم تثمر الحرب المتطاولة في الإقليم مكاسب سياسية او اقتصادية او تنموية لصالح المهمشين، للاسف فاتورة الدم والدموع والتشرد والحرمان من السلام لعشرين عاما لم يتم سدادها في حساب دارفور شعبا وإقليما! بل تم سداداها في حسابات لوردات الحرب مناصب وغنائم، والأخطر من ذلك أفرزت اتفاقيات السلام المعطوبة وعلى رأسها اتفاق سلام جوبا أوضاعا تنذر بمزيد من الحروب العبثية!
فبعد توقيع هذه الاتفاقية المشؤومة انخرطت الحركات المسلحة في حركة تجنيد واسعة واستدعاء لمرتزقتها من دول الجوار استعدادا لقمع اي تمرد في الاقليم على لوردات الحرب واستعدادا للابتزاز المسلح للحركة السياسية المدنية لتصمت تماما عن مسخرة جوبا، وكل ذلك في سياق صراع غنائم بائس لا مكان فيه للضحايا وقضاياهم العادلة التي ترفع كقميص عثمان في وجوه أمثالي ! ولكنها لا ترفع ابدا في وجه المؤسسة العسكرية وانقلابييها! ولا في وجه الفلول والكيزان ولا في وجه الجنجويد!
رابعا: ما بعد الرومانسيات!
بعد تجربة الإنقاذ التي استمرت لثلاثين عاما ما عاد مقبولا ولا معقولا أن يأتي كوز ويصيح بأعلى صوته في وجه معارضيه وا إسلاماه! والاسلام في خطر! والاسلام هو الحل! ببساطة هناك تجربة شاخصة على الأرض جردت السردية الإسلاموية من رومانسية وبريق الوهلة الاولى حتى لدى المواطنين الذين لا علاقة لهم بعالم الفكر السياسي وتعقيداته .
بذات المنطق ليس مقبولا ولا معقولا ان يأتي شخص منخرط في حركة مسلحة او مثقف منحاز لقضايا المهمشين – مهما كان صادقا ومخلصا في انحيازه – ويصيح في وجه كل من نقد العمل المسلح بفقدان الحساسية تجاه معاناة المهمشين واجترار سرديات المركز والهامش برومانسية الوهلة الأولى التي تبدد بريقها تماما امام تجربة واقعية شاخصة امامنا عمرها عشرين عاما في دارفور، اما تجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان فسوف تكمل في 16 مايو المقبل اربعين عاما!
ما العمل؟
كيف نبدد هذا الظلام الكالح المخيم على بلادنا؟ كيف نفتح صفحة جديدة في تاريخنا خالية من الحروب والاستبداد والفساد؟ كيف نجبر الكسور والانكسارات المادية والمعنوية لهذا الوطن وندشن مشروعا لنهضته؟ هذه هي الأسئلة الصعبة التي يجب ان تشغلنا، ولن نكون مؤهلين للإجابات الصحيحة بدون سيادة التفكير النقدي في كل التيارات الفكرية والسياسية وتفحص عيوبها البنيوية وإصلاحها في اتجاه توطين قيم الديمقراطية والمؤسسية واستيفاء معايير الحكم الراشد من مشاركة وشفافية ومسىاءلة ومحاسبية وسيادة حكم قانون، لن نكون مؤهلين للإجابات الصحيحة مالم ننتقل من خانة الفرز العرقي والهوياتي الى خانة الفرز السياسي على أساس القيم الإنسانية العالمية وقمتها الديمقراطية وحقوق الإنسان ووسائلها مؤسسات الحكم الراشد، لن نكون مؤهلين للإجابات الصحيحة دون رد الاعتبار لخطاب الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية الذي انحسر بفعل فاعل لصالح خطاب الاصطفاف السياسي على أسس إثنية وجهوية، وهذا لا يعني الغفلة عن قضايا التمييز العنصري وفشل الدولة السودانية في إدارة التنوع الثقافي في البلاد، ولا يعني التخلي عن واجب الاعتراف بهذه الحقائق والاعتذار عنها في سياق عملية تاريخية للعدالة الانتقالية كمدخل لمصالحة وتعافي وطني مطلوب بإلحاح في ظل الانقسامات العميقة الماثلة.
ولكن لا بد من مغادرة الغلو والتنطع في الخطاب الهوياتي والإثني الذي أصبح آفة عالمية أغرقت المجتمعات في شبر ماء الانقسامات الهوياتية على حساب خطاب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الارحب والاوسع والاقدر على توحيد المجتمعات لخدمة مصالحها المشتركة، وفي السودان ادى خطاب الفرز العرقي والهوياتي المسيطر على الحركات المسلحة الى إفراز ثقافة سياسية متخلفة لم تحفل بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتوطين المؤسسية والحكم الراشد، بل وجعلت من الابتزاز العرقي وسيلة لإخراس اي مساءلة لتجاربها ، فكانت النتيجة استبدال قهر المركز واستغلاله للمهمشين بقهر واستغلال الحركات المسلحة! وما بمثل هذا يتم إنصاف المهمشين المفترى عليهم مرتين!!