دخلت بالباب وطلعت بالشباك
كتب: جعفر عباس
.
بعد إكمالي للمرحلة المتوسطة، قطعت الإذاعة إرسالها وقالت: يا جماهير شعبنا يسعدنا إبلاغكم بأن جعفر عباس انتقل الى مدرسة وادي سيدنا الثانوية، وبهذا ودَّع عصر ركوب الحمير وأكل البليلة في الفطور وسيرتدي البنطلون بعد أن كان يعتبر من يرتديه “باطلا”.
ثم وأنا في سنتي الأخيرة في وادي سيدنا تقرر طردي وبقية أعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب منها، بعد ان دخلنا في مواجهات مع إدارة المدرسة، واضربنا عن الدراسة، وكان الطرد مقرونا بالحرمان من الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية، “وقطَّعت الأمر في مصاريني” كما نقول في السودان عن كتمان الشيء، تفاديا لتسبيب أي قدر من الانزعاج لوالديّ، ولكن جريدة الأيام فضحتني بعد ان تبنت قضيتنا واستنكرت العقوبة المفروضة علينا ثم نشرت بيانا لنقابة أساتذة جامعة الخرطوم يطالب بإلغاء تلك العقوبة، وهكذا تقرر تخفيف العقوبة والسماح لنا بالجلوس لامتحان الشهادة من مدرسة مدني الثانوية بنات، وكان واضحا ان القصد من ذلك هو “إذلالنا”: عاملين فيها رجال وبتاعين نضال وصدام؟ اذهبوا الى مدني وعيشوا في داخليات البنات لنحو 3 أسابيع لأداء الامتحان! وفي ظل استنكار واسع لذلك القرار تم السماح لنا بالجلوس للامتحان في مدارس العاصمة، وكانت ام درمان الأهلية الثانوية من نصيبي، ولأنني لم أكن قد حصلت على الكتاب الثالث في مقرر الأدب الإنجليزي “ليتريتشر” The Seven Pillars of Wisdom فقد كان استاذي جون ميلن الاسكتلندي يمر بي في ام درمان ويقدم لي ملخصات عنه، وجاءت تقديراته سليمة فقد وجدت سؤالا في الكتاب تتطلب الإجابة عليه تنزيل ملخص فصل من الكتاب اقترحه ميلن، ولولا ذلك لرسبت في ذلك الامتحان لان شرط اجتيازه كان الإجابة على الأقل لسؤال واحد على نحو صحيح من كل من الكتب الثلاثة، وسار الامتحان في كل المواد بسلاسة لم يكن يعكرها سوى انني وبعد بعض الامتحانات كنت مطالبا بشق مقابر احمد شرفي بعد الغروب بقليل كي اصل الى مقر إقامتي في الحارة الثانية في حي الثورة، ولتفادي السير وسط المقابر كنت اسير عكس الاتجاه الصحيح وادخل حي ود نوباوي ثم اتجه غربا حتى اصل شارع “النص” المؤدي الى الثورة (كان ذلك المشوار يستغرق مني قرابة ساعتين ولكنه كان أخف على قلبي من السير وسط المقابر لربع ساعة).
وبعد نحو شهرين من تلك الامتحانات قال الراديو: جعفر عباس سيد أحمد الذي طلع من وادي سيدنا بالشباك، نجح وطلع “برنجي” لكن خالي من النيكوتين ودخل كلية القانون في جامعة الخرطوم بالباب، ومن ديك وعيك: أبو الجعافر بقى ولد بندر يتعامل مع سينما البلو نايل وايسكريم سويت روزانا، ويشرب بيبسي دون ان يتسلل المشروب الى جيوبه الأنفية، وتخلص من البنطلون الأصفر الذي لازمه طوال المرحلة الثانوية وصارت لديه 3 بنطلونات ذات ألوان هادئة وأربعة قمصان اثنان منها من اسندكو (تقاطع المؤسسة في بحري)، وجيب مليان يسمح بالتعامل من بنسون وروثمانز، وما هو أهم من كل ذلك لا رياضيات ولا حساب ولا عقاب بسبب الغياب أو عدم الالتزام بالزي المدرسي، ولا نوم إجباريا في التاسعة مساء، ولا طبيخ البراطيش (الباذنجان) في أي وجبة، ولا مدرس يقول إنك “غبي” لفشلك في الإجابة على سؤال.