التنمر ضد المبدعين..حسد، أم غيرة، أم ماذا؟

0 68
كتب: صلاح شعيب
.
هناك فرق بين النقد الإيجابي إزاء كل فعل، وبين إفراغ الطاقة السلبية تجاهه بالتبخيس العنيف. وقديماً قال الشافعي: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا. ومرة قال الطيب صالح إن أجمل نقد هو ما صدر عن محبة. وكان صديقنا الناقد صلاح فرج الله يقول في ندوة عند بداية التسعينات: “إننا لا نريد أن نطبق معايير القصة القصيرة الصارمة على الكاتبات الجدد حتى نشجع مبادرتهن ثم يصلن إلى قمة هذا الفن”. ويشير د. صلاح إلى أن المرأة السودانية كونها تدخل هذا المجال فإنه ينبغي أن يكون هذا مدعاة للفرح. ذلك لأن إنتاجنا الأدبي سيتجاوز مرحلة الذكورية بالمزيد من إفساح المجال لكاتبات قصص، وروائيات، وصدق حدسه. إذ إنه بعد ثلاثة عقود حصلنا على ناقدات للشعر، والرواية، والسينما. وفي مجالنا الإعلامي كان هناك صحفيون كبار يحتفون بالعمل الصحفي للشباب، وخصوصاً المرأة، ويشجعونها. ذلك هو الحال أيضاً في الإذاعة، والتلفزيون، برغم وجود أساتذة صارمين مثل ذلك الذي كان يتعقب المذيعات بعصاته. ومع هذا النهج كان ذلك التشديد في معالجة الأخطاء النحوية نوعاً من الحرص الزائد عليهن. ولكن لم يكن ذلك الأستاذ الرائد ليشهر بالمذيعين والمذيعات الجدد من منظور تربوي ما دام تعنيفه للفرد وحده يجلب الإصلاح، ويجعل التفريق ممكنا بين حرف السين، والذال، عندما يتعلق الأمر بجمع كلمة سبب، مثلاً. وذلك الحرص لدى رواد الإعلام التقليدي المتشددين ينبع من غيرتهم على المهنة، والهم بإعداد جيل جديد لا يرفع المفعول به، وينصب الفاعل.
الآن أتاح الإنترنت للناس فرص التعبير العام عن شؤونهم الخاصة، والعامة، وكذلك منح فرصاً للإنتاج الإعلامي، والإبداعي، بمختلف ضروبه. والحمد لله صارت البشرية جميعها تعمل على تحرير أدوات التعبير، والإعلام من الهيمنة الحكومية، والإقليمية، والدولية، وتمهد المجال لهزيمة مشاريع تدجين الشعوب عبر مساعي الطبقة الوسطى التي تهم بشؤونها قبل شؤون الطبقة الفقيرة، كما يدل حال البلدان الفقيرة خصوصاً.
-٢-
بعض الكتاب الغربيين وسموا هذا العصر بالتفاهة كضيق من وجود ميديا حديثة تتيح لفقراء الفهم، والدخل، التعبير عن ذاتهم بالطريقة التي تكشف عن فداحة المسافة الواسعة في الاستنارة بين المثقفين والمتعلمين. ولو أن التفاهة تحتضن مساهمات هذه الطبقة الفقيرة فتلك مسؤولية هذه المجتمعات التي خلقت بؤرا للجهل، وقلصت دوائر المعرفة على غير المتأثرين بالظلم الطبقي. وهنا علينا أن نكون شجعان في تحميل الطبقة الوسطى المتواطئة مع السلطة المسؤولية في فشلها في انتشال فقراء الفهم من تدجين السلطة لهم. فسخرية مثقفي الطبقة الوسطى خصوصاً اليساريين من غياب الوعي عند الطبقة الفقيرة التي تعبر سياسياً في الميديا هو الجهل عينه بقيم اليسار العميقة. فلو وجدنا العذر لليمينين فلا عذر لطائفة مدينية للطبقة اليسارية التي تجعل من الطبقة الفقيرة أداة لرفع الوعي حتى تنتصر الجماهير، وتخرج عن عباءة التدجين الرأسمالي الذي خلق تاريخيا أدواته الإعلامية لتجهيل الشعوب دون معرفة بحقوقها.
هذا المناخ الذي فيه تحرر التعبير الشفاهي، والمكتوب، عن الطبقية الثقافية التي كانت سائدة حتى وقت قريب حيث يغدو المثقفون هم المنتجون والفقراء هم المتلقون خلق تنمراً مجتمعياً، مزدوجاً.
فالمثقفون لا يأخذون في الحسبان أن الذين لم يكن لهم صوت في السابق يحتاجون إلى زمن لإنضاج مساهماتهم في نشر الوعي بالمزيد من ممارسة التعبير الذاتي. ذلك لأن البشرية قطعت أشواطاً حتى أصبحت الطبقة الوسطى قادرة للوصول إلى مرحلة إنتاج الوعي الذي قاد إلى الديمقراطية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحوار الأديان، إلخ. ولذلك يبقى التنمر الزائد الذي نشاهده عند بعض مثقفي الطبقة الوسطى تجاه فقراء الفهم في الطبقة نفسها، والطبقة الفقيرة بلا معنى، ومردود لها.
فلو كان مسعى مثقفي الطبقة الوسطى هو نشر الوعي كما يزعمون دائماً فإن النقد بمحبة لإنتاج الشباب الإعلامي، والإبداعي، ينبغي أن يكون مشجعاً لا ساخراً، أو مستهجناً.
-٣-
لنحو ثلاثين عاماً، أو تزيد، فقد شبابنا القدوة الثقافية لعوامل الاستبداد، وهجرة الأساتذة، والمبدعين، وبالتالي حدث الانقطاع الثقافي في الموصلات الإبداعية، وتعرض الشباب السوداني لأكبر استهداف ثقافي لم ينقذه منه إلا الإنترنت الذي كان مثل هدية السماء له. ولو تعقل الناقدون لمساهمات هؤلاء الشباب قليلاً لعذروه، كون أنهم
خرجوا من ثلاثة عقود استهدفتهم بصياغة مجتمعية منغلقة فكرياً أداتها الترغيب، والترهيب.
هذا الشباب بعد أن انتصرت رغبته في التحرر الفكري، والسياسي، يحاول الآن الكتابة في كل شؤون الحياة عبر الميديا الحديثة. ويعمل مجداً في توظيف الصوت، والصورة، للتعبير الحر، أصالةً عن نفسه، وخدمةً لبلاده. وهناك شباب وجدوا في الغناء ضالتهم ليعبروا بمستواهم الثقافي عما يرونه فناً. ونشأت جماعات مهمومة بالدراما، والسينما، والمسلسل التلفزيوني، وقدموا مساهمات تعبر عن هموم جيلهم، ومستويات وعيهم الذي اكتسبوه في عهد الانقطاع الثقافي.
وشبابنا ليس بدعاً في هذا. ففي كل العالم نهض الجيل الذي تفتح وعيه في عصر الإنترنت لتأكيد قدرته على الإبداع، منساقين بهمومهم، وذائقتهم، واستقلاليتهم عن جيل الآباء.
للأسف انخلق أيضاً وسط هؤلاء الشباب أنفسهم متنمرون يترصدون أخطاء بعضهم بعضا لقتل الرغبة عندهم في مراكمة الإبداع. وبالتالي يواجه المبدعون الشباب تنمر الأجيال السابقة تجاههم، وتنمر أقرانهم بما لا يقاس.
شحيح هو النقد الذي يصوب مساهمات الشباب المبدع في مجالات التنوير السياسي، والإعلام الجديد كافة، والدراما التلفزيونية، والسينما. ولو أن الجيل السابق وجد الرعاية من المؤسسات التقليدية الثقافية، والإعلامية – بعيداً عن التنمر – فإن هذا الجيل المبدع الناشط في توظيف الميديا الحديثة إبداعياً ليس أمامه إلا أن يكون ناقداً لنفسه بكل صدق حتى يتجاوز أخطاء البدايات.
النقد عنصر أساسي لتطوير أي شيء، وضرورته تنبع من أن كل مبدع يحتاج للعين الأخرى التي تبصره. وحتى إنك تجد المبدعين الذين راكموا في الإنتاج بحاجة إلى تقويم أعمالهم شكلاً، وموضوعاً. وكل ما أنتجه شبابنا في مجال الرواية، والقصة، والإعلام الأثيري عموماً، والغناء، وبرامج الفضائيات، والدراما، والمسلسل التلفزيوني، هو محل تقييم علمي حريص على تشجيع هذه التجارب على تجاوز الهنات في الفكرة، والتطبيق. ومهما فشل بعض هؤلاء الشباب في تجربة، أو تجربتين، فمن حقه أن يصحح. تجاربه وصولاً للنضوج الإبداعي. فنادرون هم المبدعون الذين يولدون كأصوات جديدة من أول وهلة. فبالله لا تتربصوا، ولا تتنمروا، على كل صاحبة مساهمة إبداعية بالسخرية، والاستهجان. فالأفضل كما قال الطيب صالح: انتقدوها بمحبة، وبينوا لها مواطن الضعف، والقوة معاً حتى تتخلصوا من سعار النفس.
.
قد تكون صورة بالأبيض والأسود لـ ‏شخص واحد‏

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.