في مسألة حلايب

0 87

كتبت: د. أماني الطويل

.

صدر قبل أيام في بيروت كتاب مهم للدكتور السوداني فيصل عبد الرحمن علي طه، تحت عنوان “في مسألة حلايب”. وقد وصلني بناء على طلبي من المؤلف مرسلا من أبوظبي حيث يقيم، مع إهداء لطيف هو محل شكر وامتنان بالتأكيد.

الكتاب هو من المجهودات السودانية الهامة التي تطرح للنقاش مسألة الخلاف الحدودي بين مصر والسودان، وهو من بين أكثر من مائة خلاف حدودي في القارة الإفريقية. كما أنه أحد ثلاثة خلافات أساسية بشأن الحدود السودانية مع كل من مصر وإثيوبيا، وكذلك بين دولتي السودان.

الكتاب عبارة عن عدة مقالات متفرقة كتبها المؤلف في صحف متعددة، ولكنه أعاد هيكلتها بشكل يلبي محاور الموضوع الذي يتصاعد فيه الجدل بين فينة وأخرى سواء في الفضاء العام السوداني، أو كأحد آليات التعبير عن موضوعات خلافية في العلاقات بين مصر والسودان غالبا ما تكون في كواليس القيادات السياسية للبلدين طبقا للتطورات.

في هذا الكتاب يرصد المؤلف ظهور أزمة المثلث الحدودي وتطوراتها اعتبارا من عام 1958، وكذلك مسألة نتوء وادي حلفا المغمور، وتطورات السيادة عليه.

كما أقدم المؤلف على تقييم أداء الدبلوماسية السودانية فيما يتعلق بالحدود مع مصر سواء البرية أو البحرية.

ولكن الأهم من ذلك كله أنه يتعرض بالتمحيص لأمرين أساسيين هما اتفاقية 1899 المؤسسة لشراكة مصرية بريطانية في حكم السودان، ويقدم قراءته الخاصة لها، من حيث اعتماد الموقف المصري على المادة الأولى من الاتفاقية التي تؤسس لاعتبار المناطق الواقعة جنوب خط عرض 22 هي دولة السودان، ويجادل بالقول إن لفظ حدود أو حدود سياسية لم يرد في نص الاتفاقية. وهو أمر يحتاج بالتأكيد إلى فقهاء قانون دولي لا أنا ولا الدكتور فيصل من المتخصصين فيه.

كما يجادل د. فيصل في صفحة 20 أن اتفاقية 1899 أو تعديلاتها حتى عام 1907 شكلت حدودًا إدارية بين مصر والسودان في اتفاقية 1953 للحكم الذاتي وتحولت بحكم إعلان استقلال السودان إلى حدود دولية. وهو أمر أستطيع الرد عليه بموجب الوثائق التي اطلعت عليها أن خطاب استقلال السودان إلى مصر لم يتضمن إعلان حدود بين البلدين. وهو ما سأل عليه جمال عبد الناصر في حينها، ولم يجده طبقا لما أوردته في كتابي العلاقات المصرية السودانية إشكاليات الإدراك وضرورات المصالح، وربما يكون ذلك خطأ جسيما من جانب نخبة الاستقلال في حينه.

أما الأمر الثاني فهو استعراض الدكتور فيصل لفقه محكمة العدل الدولية في التعامل مع مسألة الخلافات الحدودية بين الدول. وهو ينبه في هذا السياق أن مرجعيات المحكمة في إصدار أحكامها، تعتمد على طبيعة ممارسة السيادة على المناطق المتنازع عليها في الفترات الحديثة، وليس في فترات التاريخ الغابر. والمؤلف في هذا المقام يقوم ربما بمحاولة ترشيد الأداء السوداني العام الذي يحاول الاستناد إلى براهين مؤيدة لموقفه قبل تكوين دولة السودان الحديثة في القرن 19 عائدا في ذلك إلى حدود الممالك السودانية.

بطبيعة الحال يقدم المؤلف السوداني رؤية منحازة لبلاده وهذا حقه بالتأكيد، ولكن هذا لا ينفي طبيعة المجهود المحترم الذي بذله لاستباط ما يؤيد موقفه سواء في قراءة الوثائق التي أفرد لها ملحقا خاصا، سواء تلك المرتبطة باتفاقية السيادة المشتركة أو باتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، أو الرجوع لأحكام محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالخلافات الحدودية.

أهمية الكتاب- في تقديري- أنه يمكن أن يكون لبنة من لبنات محاولة تدشين حوار إفريقي شامل فيما يتعلق بالخلافات الحدودية، خصوصا في منطقة حوض النيل، ذلك أن الخلافات الحدودية باتت عبئا على الدول بشكل يفضي أحيانا إلى نشوب صراعات مسلحة بين الجيوش، على النمط الذي جرى بين السودان وإثيوبيا، خلال مطلع القعد الثالث من الألفية أو بين دولتي السودان، بعد استقلال جنوب السودان في منطقة أبيبي، وهو خلاف لم يتم حله حتى الآن، كما أنه يثير احتقانات لها تكاليف كبيرة في العلاقات السودانية المصرية، بل على السودان خصوصا في مراحل بعينها، فقد ساهمت الضغوط الشعبوية مثلا على حكومة د. عبد لله حمدوك في مشكلة حلايب في دفع رئيس الوزراء السوداني إلى إثارة هذه المسألة الخلافية أثناء زيارته الأولى للقاهرة. وهو أمر لم يكن مناسبا بالحساب السياسي، ذلك أن بلدا بعد ثورة، وبقيادة حكومة مدنية يتربص بها المكون العسكري كان من المناسب أن تركز في هذه المرحلة -على الأقل- في ضمان الدعم من كل طرف إقليمي مؤثر، وليس إثارة خلاف تاريخي آليات حله معقدة، تاركة الخلافات التاريخية لمرحلة يمتلك فيها المدنيون عافية كاملة بشرعية منتخبة.

وفي هذه المرحلة يساهم توظيف مشكلة حلايب على نحو سلبي من جانب أطراف أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي التي تختلق أحاديث منسوبة لأطراف مصرية في المجالات كافة. وذلك في أمرين؛ الأول خلق حالة عداء مزمن بين مصر والسودان لتحجيم قدرات كل منهما الحالية والمستقبلية، والثانية بلورة الهوية السودانية في مرحلة سيولة على نحو غير متوازن، لا يستجيب للتنوع السوداني بشكل عادل ويساهم في جعل هذه الأزمة مزمنة وغير قابلة للحل.

وربما حالتا إثيوبيا وكينيا التي تعاني فيهما قومية الأورومو من تهميش خير دليل على ما ذهبت إليه حيث تتم أحيانا عمليات هندسة لهويات الشعوب لتلبي مصالح أطراف خارجية أكثر ما تلبي احتياجات وطنية، وهو أمر في تقديري يجري في السودان حاليا.

هذه الحالة المنبثقة عن مسألة حلايب كما أسماها دكتور فيصل طه تخلق احتقانات شعبوية في السودان ضد مصر، حيث تعبر عن نفسها بشكل عشوائي وتساهم في تصاعد التوتر بين مصر والسودان، وتنعكس على اقتصادات البلدين بالسلب كما جرى فيما يعرف بترس الشمال، الذي يعطل التجارة بين البلدين عبر وقف الطريق البري بين مصر والسودان أكثر من مرة، وذلك في مرحلة حرجة يحتاج فيها البلدان لبعضهما البعض أكثر من أي وقت مضى، خصوصا مع السيولة السياسية السودانية، والأوضاع الاقتصادية المصرية، وكذلك التوتر الدولي العام نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد مشكلات الأمن الغذائي، وتصاعد الظاهرة الإرهابية، وذلك كله تحت مظلة تكالب دولي علي الموارد.

الحوار المتخصص حول الخلافات الحدودية الذي أدعو إليه لا بد وأن يتضمن مؤرخين ومتخصصين في القانون الدولي من دول وادي النيل كمرحلة أولى، وهي مصر والسودان وجنوب السودان، وهو بطبيعته غير ملزم لأي طرف رسمي، ولكنه بالتأكيد يحقق تقاربا وتفاهمات قد تكون جسرا لحلول مطلوبة وبإلحاح في فترات بناء تقدم الدول والسعي إلى تحقيق الاستقرار والرفاه والتنمية المستدامة فيها.

هذا النوع من الحوار الأكاديمي المتخصص ليس بالجديد فهو مسبوق تحت مظلة جامعة القاهرة التي عقدت مؤتمرا كبيرا بهذا الشأن عام 1997، بحضور طيف واسع من المتخصصين المصريين والسودانيين، كما عقدت بشأنه أكثر من جلسة عمل في مراكز التفكير والأبحاث بالقاهرة على مدى سنوات كما كان محلا لاهتمام المركز الثقافي الفرنسي السيداج بالقاهرة الذي عقد ندوة بأسوان تزاملت فيها مع د. حسن حاج علي من السودان.

كتاب مسألة حلايب للأسف يوزع في بيروت والخرطوم فقط وأجد من الضروري الانتباه له من جانب الحادبين “الحريصين” على العلاقات المصرية السودانية، وأيضا من الأطراف البحثية والرسمية المصرية المهتمة بالتعرف على طبيعة المجادلة السودانية في المطالبة بحلايب، والأسس التي تستند لها، خصوصا، وأن المجهودات الأكاديمية المرموقة كمؤلف د. فيصل طه هي شبه نادرة.

وأخيرا، أتمنى على الدكتور فيصل وهو الأكاديمي المرموق أن يتعرض بالبحث لمشكلتي كل من أبيي مع دولة جنوب السودان والفشقة مع إثيوبيا، حيث تشكل الخلافات الحدودية الثلاثة أسس الخطوط الحدودية للدولة السودانية التي نسعى جميعا لاستقرارها وتقدمها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.