*ما الذي حدث في مباراة الهلال السوداني والأهلي المصري؟*

0 78

كتب: د. محمد جلال أحمد هاشم

.

*الحدث*
جرت المباراة بين الفريقين في القاهرة يوم 2 أبريل الجاري ضمن منافسات أبطال الأندية على كأس أفريقيا. وهذه هي مباراة الرد، حيث جرت المباراة الأولى في الخرطوم وفاز فيها الهلال بهدفين مقابل هدف. في مباراة الرد، فاز الأهلي بثلاثة أهداف نظيفة، وبالتالي تأهل للصعود، مقصيا بذلك الهلال.

*ما جرى بعد انتهاء المباراة*
من باب الاحتفاء بالفوز، هتفت جماهير الأهلي (وهي تمثل هنا مصر) التي ملأت الإستاد عن آخره، بالهتافات التالية:
*مع السلامة .. مع السلامة .. مع السلامة .. يا اولاد الوسخة*
ثم زادت على ذلك باستخدام لفظة “العبيد” لوصف لاعبي فريق الهلال وذلك من باب النظر لأي أفارقة سود على أنهم عبيد، بما ينطوي على إلغاء لإنسانيتهم dehumanization، وبالتخصيص فإنهم يقصدون الشعب السودان مطلقا بهذه العبودية.
وبالطبع، هذه النظرة الحاطة من الكرامة الإنسانية ليست وقفا وحصرا على الشارع المصري، بل هي نظرة المعدل العام the average view للشارع الليبي، وكذلك اللبناني، والتونسي، والسوري، والعراقي، ومجمل دول الجزيرة العربية، باستثناء اليمن وسلطنة عمان إلى حد كبير. وليس ببعيد ما تلفظ به الدبلوماسي المصري قبل أعوام قليلة داخل قاعات منظمة الاتحاد الأفريقي، واصفا للأفارقة بالعبيد لمجرد عدم تصويتهم لصالح قرار تبنته مصر. ومع علمنا بأن هذه العنصرية المُلغية للإنسانية الموجة ضد الأفارقة السود بصورة عامة، ثم جميع السود، موجودة في الكثير من الشعوب، في آسيا والأمريكتين وأوستراليا وأوروبا، إلا أن تجلياتها عادةً ما تنحصر في أفراد معدودين، ذلك لأن قيم عصر الحداثة التي شرعت في الترسخ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمكنت بالفعل من أن تترسخ بحلول عقد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.
وعليه، ما حدث يكشف يكشف ربما عن قاع سحيقة، لا قرار لها، من حيث تورط الشعوب التي تعرّف نفسها على أنها عربية. وليس أدلّ على هذا، وهو الأمرّ والأقسى، أن هذه النظرة الحاطة من الكرامة والإنسانية هي أيضا تمثل نظرة المعدل العام لوسط السودان وشماله النيلي، بالأخص المجموعات الأفريقية المستعربة وغير المستعربة ذات اللون الأسود (نعم: الأسود) غير الداكن، أي اللون الأسود “الفاتح” (بحسب التعريفات المحلية الساعية لتعمية وتمويه حقيقة أن جميييييع السودانيين هم في حقيقتهم أفارقة سود يعيشون في بلد السود الذي اسمه “السودان”، بما يعني “بلد السود”).

*ردة الفعل في السودان*
أثارت هذه الهتافات غضبا واسعا بين جميع السودانيين، بخلاف قلة معدودة من مغتربي الهوية، مسلوبيها، الذين أرادوا تخفيف حالة انكشاف العنصرية في أسفل دركاتها وانفضاحها، ذلك بتخفيف ما حدث بوصفه على أنه مجرد “هرجلة” مشجعي كرة القدم. وقد كان مرد الإحساس بالمرارة والغضب البالغين بين المجموعات النيلية الوسطية الشمالية هو أنها قد أُدينت ممن هم “أفتح لونا منها”، بما كانت تدينُ به من هم أسود لونا منها. فالمعيار الذي ظلت (ولا تزال) تستخدمه لإلغاء إنسانية إخوتهم السودانيين الأكثر سوادا منها (وباقي الأفارقة السود بالضرورة)، قد تم استخدامه وتطبيقه ضدهم من قبل آخرين أفتح لونا منهم. فمرد جانب كبير في غضبتهم المضرية هذه، يعود إلى انكشاف انهزامية معايير الاستعلاء البائسة عندهم. هذا دون إلغاء توافر السلوك الإنساني المتحضر من حيث استنكار العنصرية بصورة عامة.
من المتوقع أن تلعب هذه الحادثة، دون مثيلاتها التي تفوق الحصر والعد مما تعرض له السودانيون، ولا يزالون يتعرضون له، بطريقة فردية، أو جماعية، بين ظهراني من يُعرّفون أنفسَهم على أنهم عرب، لكن بطريقة غير معلنة وعلى رؤوس الأشهاد عبر الوسائط الاجتماعية مثل حادثة مباراة الهلال والأهلي النكراء – من المتوقع أن تلعب هذه الحادثة في المستقبل القريب والبعيد دورا كبيرا في تفكيك بنية الهوية العربية بين مجموعات معتبرة من السودانيين.

*الطبيعة التقابلية – التكاملية بين مركب الاستعلاء من جانب ومركب الدونية من الجانب الآخر*
يؤكد لنا علم النفس أنه لا يوجد مركب استعلاء وإلا كان يستبطن داخله مركب دونية، والعكس بالعكس صحيح. بمعنى، إذا ساورك إحساس داخلي بالاستعلاء تجاه بعض الناس، فتأكد أنك تستبطن في داخلك إحساسا بالدونية تجاه أناسٍ آخرين. دعونا ننزل بهذه القاعدة النفسانية إلى أرض الواقع المصري تحديدا (للعلم، ما سأقوله أدناه هو مجرد استعراض مختصر لما قلته في كتابي: *مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي* الخرطوم: طبعة أولى 2018م؛ طبعة ثانية 2021م):

*الحقيقة الأولى*: مصر هي البلد الأكثر فوزا بكأس أبطال أفريقيا للأندية وكأس افريقيا معا، بما لا يقارن مع أي بلد أفريقي.

*الحقيقة الثانية*: مصر من أقل الدول الأفريقية تأهلا لمنافسات كأس العالم، مقارنةً مع فوزانها الاكتساحي للفرق الأفريقية في منافسات الأندية وكأس أفريقيا.

*التساؤل مناط التحليل*: كيف جاز لفرق الأندية المصرية وللمنتخب القومي المصري أن يكون الفائز الأول على فرق الأندية المنتخبات القومية الأفريقية طالما كانت هذه المنافسات محصورة داخل أفريقيا، ثم يعجز المنتخب المصري من تجاوز نفس المنتخبات الأفريقية للصعود والتأهل لمنافسات كأس العالم، وهي نفسها الفرق والمنتخبات الأفريقية التي هزمها شر هزيمة، المرة تلو الأخرى، ذلك عندما كانت المنافسات منحصرة أفريقيّاً؟

*جواب التساؤل*: إنها تقابلية – تكاملية مركب الاستعلاء مقابل مركب الدونية! كيف؟ عندما يلعب المصريون ضد الأفارقة في المنافسات المنحصرة داخل أفريقيا، تتكثف بداخلهم مركبات الاستعلاء التي انعكست وانكشفت في مباراة الهلال والأهلي. فبالنسبة للمصريين، وبموجب حرايك مركب الاستعلاء، هؤلاء الأفارقة ليسوا ببشر حتى؛ إنهم اشبه بالقرود، أي أنهم مجرد حيوانات (إنما لهذا يغمز الشارع المصري ويُلمز بكلمات من قبيل “ميمون” وما شابه من ألفاظ تُسمّى بها القرود في وصف الأفارقة الأفحم سوادا، مثل السودانيين الجنوبيين بصورة خاصة). وعليه، كيف يجوز وكيف يُقبلُ عقلا ومنطقا أن يفوز القرود وإن تفوز الحيوانات على البشر، وأي بشر هؤلاء؟ إنهم المصريون، أهل مصر أم الدنيا والآخرة؟ هنا تنحجب هذه الهوية المصرية المُشرّفة عن النوبيين بأقصى جنوب مصر، وما هذا إلا لسواد ألوانهم، أي بموجب هويتهم الأفريقية السوداء، فتصوروا!
وجه التناقض paradox الأبيضاني هنا يكمن في أن كل هذه المنافسات إنما تدور في سياق كؤوس رياضية بين فرق أندية ومنتخبات لدول أفريقية غالبيتها الساحقة ليست فقط سوداء، بل هي فاحمة السواد. جانبا عن هذه العنصرية المنحطة، فإن هذا يكشف عن مدى التغريب الأفريقاني الذي تورطت فيه دولة أفريقية لها وزنها، مثل مصر.

*استيقاظ مركب الدونية*: ولكن عندما تأتي منافسات المنتخبات الأفريقية للتأهل لكأس العالم، هنا تصحو مركبات الدونية التي يعاني منها المصريون شعبا وحكومةً (المتحددين بهذه التقابلية) تجاه من هم أكثر بياضا منهم، وأكثر تقدما منهم! إنهم الأوروبيون! هنا تنكسر عنجهية العنصرية المصرية (المتحددة وفق هذه التقابلية) وتتحرك وتنشط مركبات النقص، فيزوَرُّ المصريون وينكفئوا على أنفسهم. فماذا يفعلون عندها؟ إنهم ينهزمون هزائم نكراء لذات منتخبات القرود والحيوانات التي هزموها شر الهزائم قبل أشهر معدودة. وبهذا ولهذا يعجز المصريون عن التأهل لكأس العالم! فالمنتخبات التي تُقصيهم من التأهل لكأس العالم ليست فرنسا ولا إنكلترا ولا ألمانيا … إلخ، بل هي غانا والسنغال ونيجيريا … إلخ. أي نفس منتخبات القرود!

*الدرس المستفاد*
العلاقات بيننا وبين مصر أزلية؟ نعم! إنها أزلية، لكن بالنفس القدر من أزلية العلاقات بيننا وبين إثيوبيا وإريتريا وكينيا ويوغندا وتشاد … إلخ. هل مصر دولة شقيقة؟ لا وأيم الله! بل هي بوضعيتها هذه، ليس فقط من حيث نظرتها الاستعلائية تجاه السودان، با من حيث احتلالها لأراضي سودانية (مثلث حلايب)، بجانب انحيازها الدائم والمستمر للأنظمة العسكرية والديكتاتورية في السودان، دون أي اعتبار لنضالات الشعب السوداني ضد هذه الأنظمة ودون اي احترام لأشواقه للديموقراطية والحرية والنهضة. وفي الحقِّ، ليست هناك دولة شقيقة للسودان بخلاف دولة جنوب السودان!

*فما هو الدرسُ المستفاد؟* الدرس المستفاد هو أن مصر لو استمرت على هذه الحال، فإنها ستظل تسقط من حالقٍ إلى ماحقٍ باستمرار. وبهذا سوف تثبت أكثر وأكثر أنها كما لو كانت تعمل بخطة لبتٌّ حاضرها عن ماضيها الزاهر بكل ما يشمل من حضارات. فما تفعله مصر بنفسها يمثل شكلا من أشكال الغباء الأيديولوجي غير المسبوق بالمرة. فهي تنتكس باستمرار عن ريادتها للحداثة في الشرق الأوسط وفي أفريقيا، تلك التي اجترحتها خلال العقود الأولى من القرن العشرين إلى منتصفه. وهي إذ تنتكس باستمرار، تعوض عن ذلك بانتفاخ الذات الواهمة الكذوبة. ركوبا لتنطع العنصرية البغيضة، تكريسا منها لمركبات الاستعلاء تجاه أفريقيا السوداء، دون أن تدري أنها إنما تُكرّس من مركبات الدونية فيها تجاه الغرب الأوروبي. وهذا غباء أيديولوجي يفوق غباء الأيديولوجيا الإسلاموعروبية الظالعة من قبيل ما عشناه ولا نزال نعيشه في السودان. إذ لا يملك المرء إلا أن يتعجب ويتعجب كيف يفوت على المصريين إدراك الحالة المزرية التي يعيشون في ظلها وتُحيق بهم تداعياتها؟ فمصر، إلى درجة كبييييرة، دولة عديمة الموارد قياسا بالسودان. وليس أدل على هذا من حقيقة أن النيل يأتيهم من السودان، دون ذكر الموارد الأخرى. والغباءُ كلُّ الغباءِ أن يعتقد المصريون (حكومةً وشعبا وفق التحديد أعلاه) أنهم يمكنهم الاستفادة التامة من موارد السودان بالفهلوة والاستهبال والتعويل على فساد الحكام وحالة الاغتراب الهوياتي التي تعاني منها النخب الإسلاموعروبية مقطوعة الطاري (على وزن الإطاري) في السودان، وكل هذا على حساب تقدم السودان وضد أشواق شعبه. فهذه درجة من الغباء من شأنها أن تضع قرود جامعة الخرطوم (قرود حقيقية وليست مجازية) في درجة من الذكاء أعلى بكثير من الذكاء المتوهم لدى خبراء مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية.
والخطورة في استشراء هذا الوباء الغبائي المصري هي أن العديد من دول المنطقة سوف تدفع قمت هذا الغباء فيما يعرف بالأضرار الجانبية collateral damage، والسودان على راسها. فأنت في عقر دارك لن تكون آمنا، ذلك إذا ما أّصيب جارُك بلوثة جنون، وشرع في تسوّر الجدران والتدخل في شئون الجيران.
أقول قولي هذا لأننا في السودان قد عايشنا حالة جنون الدولة، ذلك إبان حكم الكيزان! ليس ذلك فحسب، بل مصر أيضا عايشت معنا تلك التجربة، وكادت أن تفقد رئيسها. فماذا فعلت مصر إزاء ذلك؟ هل حاولت أن تساعد الشعب السوداني؟ لا وأيمِ الله! لقد رأت أن تلك مناسبة لا بد من اغتنامها لتطويع ذلك النظام المجنون، ليس تخليصا للسودان منه، بل لإخضاع السودان لإرادتها هي ولمصلحتها هي، أما الشعب السوداني في ستين داهية. فهل هناك غباء أكثر من أن تعوّل على جنون حكام جيرانك، مطّرحا جانبا أشواق الشعب السوداني وغير مبالٍ به؟ إن هذا لهو الخسران المبين!

*MJH*
الخرطوم – 4 أبريل 2023م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.