ما وقع بين رفاق السلاح في الغابة والجبل لا يبقى فيهما (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
وصل ما سبق
توقفت في الحلقة الماضية عن حفاوة الجبهة الشعبية لتحرير السودان، الحلو بعهودها الأخيرة مع السيد جعفر الميرغني نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي التي ساقت زعيمهم، عبد العزيز الحلو، لزيارة مصر بدعوة من زعيم الاتحادي. فوصف قيادي من الحركة ما بينهم وبين الاتحادي بأنه “مواصلة النهج التاريخي الذي تبناه الطرفان لمعالجة قضايا البلاد منذ عام 1988 بمبادرة السلام السودانية”. وتجسد هذا النهج فيما عرف باتفاق ميرغني-قرنق للسلام. ولم اتفاءل في الجزء الأول بمجريات ما بين الحركة والاتحادي قائلاً “فإن كانت لسابقة وفود الميرغني لقرنق في 1988 من دلالة فإنها عن تكتيكات الأحزاب السياسية بأكثر مما هي عن عقيدة جدية تطرأ للواحد منها عن مخرج للأمة من محنتها”.
ونواصل
فوفود السياسي الحزبي إلى مسلح في الهامش “طقس عبور” لم يتخلف عنه أحد متى خسر أمام أحزاب أخرى في الحكم. فحتى حسن الترابي قصد “الحركة الشعبية” بعد المفاصلة الشهيرة مع “المؤتمر الوطني” في آخر عام 1999 ووقع معها مذكرة تفاهم في جنيف (فبراير 2001). لم تأتِ المذكرة في حق المواطنة في الدولة بغض النظر عن الانتماء الديني أو الإثني فحسب، بل في حق تقرير المصير أيضاً متى كان ذلك خيار قوم مغاضبين. ولو قيل لإسلاميي المؤتمر الشعبي إنهم سيتنازلون في جنيف وغير جنيف عن مثل تلك الحقوق التي جاهدوا دونها بالظفر والناب لاستغشوا ثيابهم مستنكرين.
وكانت وفود الميرغني لقرنق في 1988 طقس عبور مما رأينا عند المؤتمر الشعبي. فكان قد خرج من حلف حكومي ضمه مع حزب الأمة والجبهة القومية الإسلامية. وكان السبب الظاهر لخروجه هو رفضه قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات، وهو قرار شارك فيه ثم تنصل منه في وجه المعارضة التي لقيها في الشارع. وبحكم العادة استنجد الميرغني بمسلح في الهامش وهو قرنق. ولا عيب في الاتفاقية سوى أنها، وقد أرادت تحقيق السلام في السودان، أثارت – بحزبيتها الصارخة بحيث غيبت رئيس الوزراء عن مجريات التفاوض حولها – خصومها ليرتكبوا انقلاب 1989 بعقوده العصيبة في السودان.
ربما استغرب كثيرون الأخبار عن الحلو والحزب الاتحادي، فلم يوقع الحلو معه ثلاثة إعلانات سياسية في بحر ثلاث سنوات فحسب، بل قبل أيضاً دعوة من السيد جعفر الميرغني، نائب رئيس الحزب ورئيس “قوى الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية” لزيارة مصر للترويج للإعلان الأخير الذي وقعه مع الكتلة. وكانت انعقدت في القاهرة قبل نحو أقل من شهر ورشة الكتلة لمناقشة اتفاق سلام جوبا برعاية مصرية “أكتوبر (تشرين الأول)” ومصدر الاستغراب أن “الاتحادي” مجروح سياسياً لأنه داوم في السلطة مع “حكومة الإنقاذ” حتى سقطت إبان الثورة التي لا يحسن الحلو الظن بها فحسب، بل يعتقد أيضاً أنه من صناعها بطريقته. بل لا يخشى الحلو خاشية مثل عودة الأحزاب الغالبة ذات القاعدة الدينية كالاتحادي إلى الحكم بعد الثورة. فقال لشباب المقاومة في حي العباسية بأم درمان في لقاء عبر “الزوم” في سبتمبر 2021 إن مثل تلك الأحزاب “يفسد ثوراتكم باختطافها واحتوائها”.
يخشى المرء أن يكون رمي الحلو بثقله مع الاتحادي والكتلة الديمقراطية، لا مع “قوى الحرية والتغيير-المركزي”، مواصلة لحربه مع جناح مالك عقار بصورة أخرى. فكان الحلو خرج في عام 2017 على مالك عقار، رئيس الحركة، وياسر عرمان أمينها العام فجردهما من كل نفوذ في جبال النوبة بل وتغلب عليهما أيضاً في النيل الأزرق قاعدة عقار نفسه. وكان انقساماً فادحاً تضرج بالدم في مواجهات جرت في النيل الأزرق. وجاء جناح عقار المهيض إلى مفاوضات السلام في جوبا كجزء من المركزي. فصار عقار باتفاق السلام عضواً بمجلس السيادة، وجعلوا لجناحه ولاية النيل الأزرق، بل ونائب الوالي على جنوب كردفان التي جبال النوبة جزء منها، علاوة على حصص أخرى في السلطة في الولايتين. من الجهة الأخرى، صار عرمان، الذي اختلف بدوره مع عقار واستقل بتنظيم ثالث للحركة الشعبية، عضواً مهاباً في المركزي يأمر وينهى ويغرد.
إذا صح أن ابتعاد الحلو المعزز من “قوى الحرية والتغيير – المركزي” راجع إلى خصومة 2017 في “الحركة الشعبية” وثاراتها فمعنى هذا أن اصطفافات الحركات المسلحة وتحالفاتها الحالية مما تصح قراءته على ضوء ما وقع بين رفاق السلاح في الغابة والجبل، فبصمة الشقاق انطبعت على وقائع ما بعد الانقسام إلى يومنا. وسبق أن قال حاكم ولاية دارفور، رئيس حركة تحرير السودان مني مناوي، أول قدومه بعد توقيع سلام جوبا، إن الجبهة الثورية لم تعد قائمة. وكان ذلك بمثابة حسن التخلص من جبهة جمعته طويلاً بمن لم يسعد بهم ربما. وانضمت أطراف من الجبهة الثورية إلى المركزي في حين اصطف مناوي مع الكتلة الديمقراطية.
يقول الأميركيون “ما وقع في لاس فيغاس يبقى فيها”، لكن لا ينطبق هذا على ما وقع بين رفاق السلاح في الجبل والغابة كما هو واضح.