عبد العزيز الحلو وتحريم إذاعة أغنية “دوب أنا حييّ ياخد بت أعمو” في “هنا كاودا”

0 115
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كتب عبد العزيز الحلو، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير السودان، كلمة رد فيها على مقال رشا عوض “لا وجود لثورة مسلحة في دارفور اصلاً “. وجاء بأسبابه لقيام حركات دارفور المسلحة بما أراد به القول، خلافاً لرشا، إنها ذات قضية.
لا أرغب هنا سوى الوقوف عند مسألة أو أخرى في رده لا تتعلق بخلافه مع رشا بل بمآخذي أنا نفسي على مقالته.
فجاء بقول شائع من أن بعض الدول اعترضت على عضوية السودان للجامعة العربية في 1956. وقول على العواهن “نجمنا حشته” وثائقياً بمقال عنوانه “شن بتقولو: ما اسمع تاني واحد يقول لبنان وشنو وقال لي فلان الفلاني وما عارف وكدا” على الرابط:
شن بتقولو: ما اسمع تاني واحد يقول لبنان وشنو وقال لي فلان الفلاني وما عارف وكده .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم – سودانايل (sudanile.com)
أما ما استدعاني لهذه الوقفة مع مقال الحلو فهو استنكاره تعيين رواد الحركة الوطنية الهوية العربية الإسلامية هوية للسودان دون غيرها من هوياته وألسنه وعقائده. فجاء بعبارة قديمة للزعيم الأزهري قال فيها:
“أشعر في هذا المنعطف بأنني مُضطر لأعلن أننا نعتز بأصلنا العربي، بعروبتنا وبكوننا مُسلمين. العرب جاءوا إلى هذه القارة كرواد لنشر ثقافة أصلية وإعزاز مباديء سامية أشاعت العلم والحضارة في كل بقاع أفريقيا في وقت كانت فيه أوربا غارقة في دهاليز الظلام والجهل والكهنوت والتخلُّف المريع. إن أجدادنا هم الذين حملوا المشعل عالياً وقادوا قافلة التحرُّر والتقدُّم”.
.
وهو استنكار في محله تماماً. ولكنه استنكار للبدهي في صناعة الهوية. وهي بداهة تغيب عنا لرقة اطلاعنا على علم الهوية. فليس من طلائع حركة قومية أنشأت بلداً من ركام إمبراطورية، أو حررته من براثن استعمار، إلا صبغت البلد التي حررتها بثقافته الأصاغر دون الثقافات الأكابر. وهذا ما قالت به نظرية تشكيل القومية في كتاب “الأمم المتخيلة” لبندكت أندرسون الصادر في أول الثمانينات. ولست أقول بهذا لرد الحلو عن استنكاره لمثل عقيدة الازهري وجيله. فصدف أنني كنت في حركة للماركسية السودانية سبقت الحلو في نقد تخيل طلائع الخريجين للوطن عربياً مسلماً حصرياً. بل كنت من لخص تجربة نقدنا لهذا المخيال في كتابي “الماركسية ومسألة اللغة في السودان”. صدر في رونيو الشيوعيين سراً في 1976 ونشرته دار عزة لاحقاً.
ما رغبت فيه بتعليقي هذا أن نوطن استنكارنا لهذا الخرق للمواطنة السودانية في وعي ببواطنه ومناشئه ومماثلاته. وهو الوعي الضامن للاحاطة به من أطرافه، وتجويد نقده، وضمان السداد في كسر شوكته.
لا أطيل. فقد سبق لي التعليق على المسألة حين جاء فاروق جاتكوث بنفس نص الأزهري وعلق عليه بمثل تعليق الحلو. وساءني أن جعل المستمعون لنص الأزهري من جاتكوث كوميدياً واقفاً كافأوه بضحك مجلل. وعددت ذلك طريقاً مختصراً عن للضلال عن الوعي عن تخيل الأمة الذي نريد لنص الأزهري أن يسوقنا إليه.
ونشرت تعليقي بهذه الصفحة يوم 17 يناير 2021
يوم حرم النوير إذاعة أغنية “ودوب أنا حييّ ياخد بت أعمو”
للأستاذ فاروق جاتكوث فيديو ذائع. وفيه يأتي بخطاب باكر للزعيم إسماعيل الأزهري يقول فيه إن السودان بلد عربي إسلامي حر. ويعلق عليه فاروق قائلا شوف ديل قرروا أن السودان عربي وإسلامي حتى قبل أن يستقل. وانفجرت القاعة صفقة وضحكاً سخرية ممن سموا الوليد قبل وضوعه.
ولو علم فاروق وجمهوره حق العلم بما استنكروه لكان ضحكهم كالبكاء. فالأصل في تشكيل القومية هو صفوة الجماعة التي نهضت بأمرها مثل مؤتمر الخريجين. فهي التي لا ترى الوطن المنتظر إلا في صورتها. وهذا علم نشأة القومية لمن ألقى السمع وهو شهيد. ويسمي أهل العلم العملية التي استنكرها جاتكوث وأضحكت جمهوره ب”تخيل الأمة”. فهذه الصفوة الناهضة بالقومية تتخيل الأمة، وهي في رحم الغيب، عربية مسلمة ما نسبوا أنفسهم هم عرباً مسلمين. ولهدا يقال إن القومية الصغرى مثل الشمالية تتخيل وطنا مصنوعاً من ثقافتها الضيقة ليغطي ثقافات القوميات الأخرى في الوطن التي ستنتظر الدخول في بوتقة الجماعة ذات الشوكة لتخرج منها على صورتها كما تشتهي. وهذا تلخيص ركيك مني لأشهر نظرية في حقل نشأة القومية عرضها بنديكت أندرسون في كتابه “الأمم المتخيلة” قبل أربعة عقود.
يرمي كثيرون العيب في أسلمة الدولة وتعريبها عندنا على الثقافة العربية والإسلامية التي لا ملكة لها دون سائر ثقافات العالمين للتعايش مع غيرها من الثقافات. وهذا جهل ذائع. فكل قومية صغرى بنت وطناً كما فعلت الصفوة العربية الإسلامية عندنا فَجَرت بحق الثقافات والأقوام المساكنة لها. خذ عندك بلد النور فرنسا. فكان الفرانك الجرمانيون هم من بنى فرنسا وضموا إليها شعب البريتاني الغالي، الذي يحتل غربي فرنسا في ١٥٣٢، وأروه نجوم القائلة ثقافياً. فحرمهم الفرانك ذو الشوكة استعمال لغتهم حيث حظروها في المدارس ونصبوا اللافتات تحذر من الحديث. ونشأت منذ حين حركة “هامش” برياتني تغني:
بغير اللغة البريتانية ليس ثمة بريتاني
وأريد في ما تبقى من حديث أن أسأل القارئ: هل تصورت ما كان يمكن أن يكون عليه السودان لو كانت صفوة مؤتمر الخريجين من شعب النوير لا الجلابة؟ سأسبق القارئ إلى هذا السيناريو عن حكم النوير للسودان:
قالت الأنثروبولوجية البريطانية شارون هتشنشون في كتابها عن شعب النوير إن بهم شبهة “عنصرية” في نظرتهم للشماليين. فهم يحرمون الزواج بالأقارب الذين لا يتحرج الشمالي (أو الشمالية) من نكاحهن مثل ابن العم وبنت العم وقس على ذلك. وهذه النكاحات في عرف النوير تؤدي، متى انعقدت، إلى العقم والفساد والمحن. واحتك النوير بالشماليين ووجدوهم يرتعون في الزواج ممن هم حرام في عرفهم ولكنهم في أمان الله، ولادين ولادة أرانب، لا عقم ولا الله قال. فاحتاروا: لماذا كانت محارمهم حلالاً على الشماليين حراماً عليهم؟
وجدت هتشنسون النوير في الثمانيات يتداولون عن هذه المفارقة بينهم وبين الشماليين. وساقهم ذلك إلى تفسيرات مختلفة ومعقدة. ومن تلك التفسيرات قولهم إن دم الشمالي مختلف عن دمهم. وهو اختلاف يوحي بأن دمهم هم أرفع درجة من دم الشماليين. وخاصة وهم ينسبون اختلاف الدم إلى عادات شمالية “مقرفة” مثل أكل المرارة وختان الأولاد والبنات.
واضح أن للنوير سوء ظن بالشماليين لأنهم على خلاف منهم ينكحون محارمهم ولا يضربهم العقم بسبب دمهم الذي في الدرجة السفلى. وهذه من نوع الحزازات الفاشية بين الأقوام. ولن تصبح عنصرية إلا حين يمسك النوير بزمام الدولة ويصدرون قانوناً يمنع زواج محارمهم هم مثل ابن العم وبنت الخال. ويأتي فيهم على إذاعتهم مثل الرويبضة الطيب مصطفى يصادر أغنية المرحوم الصديق عبد الرحمن بلاص:
بلال يا بلال اب ذوق عشمو
دوب أنا حيي ياخد بت زعمو
ويبكر بالوليد أنا اشيل اشمو
فالأغنية تروج للفسوق بزواج المحارم وذريته لا تستحق أن تنشال وتشم.
كل ثقافة نهضت صفوتها لبناء أمة تخيلتها مقطوعةً من قماشة ثقافتها. وستكون حزازاتها شريعة الأمة إلى حين تحاصرها الثقافات الأخرى وتفرض عليها الامتثال للزمة المتنوعة. هذا هو علم بناء الأمة. والساخرون والضاحكون يمتنعون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.