انقضاء هامش المناورة العسكرية: هل يعي ذلك كلا الرجلين (الجنرالين)؟
كتب: د. الوليد آدم مادبو
.
ظنّت “العصابة الإنقاذية” أن انقضاضها علي معسكرات الدعم السريع كان سيكون بمثابة نزهة عسكرية تُعلن من بعدها النسخة الثانية من برنامجها السياسي وإذا شئت إفلاسها الأخلاقي الذي يشمل الاغتيالات، التصفيات الجسدية، والانتقام من الشخصيات الثورية التي سفّهت أحلام الإسلاميين وسخِرت من مشاريعهم الفاشلة (نأكل ممّا نزرع ونلبس ممّا نصنع)، والمدمّرة للوطن والعابثة بأشواق المواطنين في الحرية والسلام والعدالة. وما وجود العصابة الإرهابية الأخطر في تاريخ البشرية (البشير ورفاقه) خارج السجن إلّا دليلاً على سوء الحِبكة التي أساءت للجيش من حيث أرادت دعمه وذلك بتأييدها للانقلاب ووصفها بأنّه “تحرك وطني” من “جيش النظام” الذي كان يوماً “جيشاً نظامياً” قبل أن تطوله أيدي العابثين الفاسدين.
أعدّ قائد الدعم السريع العُدة تحسباً لمكر العصابة أو اعتزازاً بصيته الذي جعله يطمح لحكم السودان وقد آتته الفرصة وتوفر له المال والصولجان. لا غِرو، فقد صدّت قوات الدعم السريع الهجوم واستشاط غضبها فتوسعت معلنةً “التمرد” على الجهات الموكلة بحراستها. بل ذهبت أكثر من ذلك فأعلنت أسْرِها لكبار الضباط وأسرهم في حي المطار الذي كان محصناً إلى زمنٍ قريبٍ من كافة أنواع التعديات. إنّ ما حققه الدعم السريع في وقتٍ وجيزٍ من قدرةٍ للتحكم في العاصمة المثلثة مدة تتجاوز الأسبوع يعتبر إنجازاً بالأقيسة العسكرية لكنّه سيستحيل إلى هزيمة نكراء إذا لم يعي “القائد” حدود إمكانيته ويقدّر حجم المأساة التي أحلت بالبلاد من جراء هذا التصرف الأخرق.
هنالك عوامل عديدة ستؤدي حتماً إلى هزيمته إذا لم يمتثل لأمر الوسطاء سيما أعضاء النادي الرأسمالي الذين إذا عزموا فعلوا وإذا ضربوا بطشوا، أهمها غياب المشروع الفكري، ضعف الحاضنة الشعبية، والبعد عن خطوط الإمداد. إن الإتفاق الإطاري يتضمن رؤية مثالية لا يمكن أن تطبق إلّا إذا وجدت توافق وطني عريض، أمّا الحاضنة الشعبية فقد تعبّت بما لا يدع مجالاً للشك ضد تواجد “الدّعامة” الذين إحتل بعضهم بيوت المواطنين، سرق مقتنياتهم واعتدى على حرماتهم، هذا إذا تغافلنا عن أمراض العنصرية المتأصلة أصلاً في ربوع السودان المختلفة، خاصة الوسط بما لديه من ضغائن تاريخية ضد أهل الغرب بما كسبته أفعال الحاكمين أو أيدي المؤرخين. أخيراً، لا يوجد سبيل لإيصال تشوين من أطعمة وذخيرة لجُند توزعوا في الأحياء ولا تجد القيادة حيلة للتواصل معهم.
إذا لم يستفد حميتي من هامش المناورة العسكرية الحالية لإبرام صفقة سياسية تُوفِر له مخرجاً أمناً وتُهيئ لجنده عفواً عاماً كي يتفادى السودان تداعيات المحرقة فسوف يتم اغتياله من قبل المخابرات الغربية التي تستطيع أخذ إحداثيات تواجده من أي مكالمة تلفونية. وقد وضح لهم بأنّه يمثل عبئاً أمنياً وسياسياً واقتصادياً -مثله مثل جيش الرب- إذا لم يتم التخلص منه في الوقت المناسب وذلك قبل أن تندلع حرباً أهلية تنذر باندلاع حريقٍ في الحزام السوداني الذي يغطي بقعة نفوذ لا يريد الغرب لها أن تكون لقمة صائغة لجماعة فاغنر والروس الذين بدأوا في الاستحواذ على موارد جنوب دارفور من الذهب واليورانيوم. قد يعجب القارئ إذا علم أن هذه العصابة تستحوذ على ٧٧٪ من ذهب السودان وتهربه كي يكون رصيداً تستقوى به روسيا في حربها على اوكرانيا.
يجب أن يعي اللاعبون العسكريون أن توسع رقعة الحرب يمثل أيضاً تهديداً جيوسياسياً للغرب الذي لا يود تكرار الأخطاء التي ارتكبها في الخليج، الهلال الخصيب ومناطق أخرى من العالم يشمل ذلك أفريقيا التي توسعت فيها الصين بصورة مذهلة في غفلة من الغرب الذي كان مشغولاً بتدمير العراق وأفغانستان. لكنّه اليوم انتبه لأهمية البحر الأحمر الذي يمثل مصدراً هاماً تمر منه عشرون بالمئة من حجم الملاحة الأوربية ولذا فهو لا يود أن يخاطر بوقوعه في براثن أيادي غير صديقة يمكن أن تستغله في تعطيل مصالح حيوية للغرب.
ما يهم الغرب في هذه السانحة هو الاستقرار السياسي الذي ضاع أو كاد أن يضيع بعد أن سعت أمريكا لتسويق بضاعتها المزجاة (التطبيع مع إسرائيل، الديمقراطية الليبرالية، حقوق النوع، إلى أخره من السخف الذي تروجه للشعوب دون أدنى نظر لأولويات المرحلة) عبر فئة من الناشطين ليس لديهم خبرة مهنية أو شبكات اتصالات محلية أو دولية، فكان التردي في الاداء الذي طمّع الأعداء. قال لي أحد السفراء الغربيين، “لقد أخطأنا خطأً كبيراً إذ وضعنا ثقلنا كله واعتمدنا في دعم المشروع الديمقراطي على (أربعة طويلة)،” قلت له: ما فات شئ يا سعادة السفير، أهلنا قالوا “العترة بتصلح المشي.”
أرادت العصابة الإنقاذية تحقيق ضربة خاطفة تغنيها عن الاستعانة بوحدات الجيش المختلفة لأنّها تخشى منذ مدة وسنين عدة انقلاب قادة الوحدات عليها الذين لم يكن يرضيهم انشغال كبار القادة بالاستثمارات الشخصية على حساب تطوير المؤسسية العسكرية. أما وقد تأخر النصر وجرح كبرياء المؤسسة الوطنية العريقة فلم يعد هناك بدٌ من استدعاء كافة الوحدات واستنفار كافة الجند، الضباط وصف الضباط من المعاشيين لخوض معركة اسموها “معركة الكرامة”، الكرامة التي اهدروها في سوق النخاسة السياسي وفي باحة السوق التجاري. وهنا تكمن ورطة الاسلاميين الذين سينتقم الجيش منهم متى ما استطاع أن يوقف زحف المليشيا ونجح أن يحد من قدرتها على التمدد. لعلها سخرية الأقدار أو مكر التاريخ أن تلجأ العصابة الإنقاذية للاستعانة بذات المجموعات التي شردتها، حرمتها معاش عيالها، بل واضاعت عليها فرصة خدمة مواطنيها. رغم ذلك، لا أشك في أنّ هؤلاء المنتدبين سَيُلْبُون النداء، لكنني أشك في أنّهم سيؤدون هذه المرة فروض الولاء والطاعة دون مساءلة للفئة الباغية!
بمقدور “المليشيا” أن تؤخر تقدم هذه “الكتيبة الظافرة” التي ستخرج من تحت الركام لكنّها لن تستطيع أن تهزمها خاصة إذا ما استطاعت هذه الكتبة أن تنتدب قيادة عسكرية جديدة تُسِهل لها فرصة الالتحام بالشعب المكلوم. لقد ضاقت بل كادت تنعدم فرص المناورة السياسية للبرهان، عليه فيجب أن ينتهز فرصة الهدنة أو الوساطة القادمة لأخذ ضمانات لنفسه، الخروج من المشهد السياسي والعسكري بالكلية، وتجنيب البلاد والجيش خاصة مزيداً من الهزائم المعنوية والمادية. كلما تأخر “الجنرال المختفي” كلما انزوى هامش المناورة التي قد تجنبه مهانة الامتثال أمام محاكمة عسكرية أو مدنية، أمّا تسليمه لحميدتي فمحض عبثٍ واستكبارٍ طرأ على قلب الأخير وعقله. لقد افتدي ثلاثون من الجند (جلهم من أبناء الهامش) قائدهم (البرهان) بأنفسهم واستنقذوه من قبضة الدعم السريع، لأنه يمثل رمزية القائد، فهلّا وعى الأخير الدرس وعلم أن الوطنية لا تعتمد على اللونية، المناطقية أو الأسس العرقية؟
ختاماً، إن المواجهة بين العصابة الإنقاذية والدعم السريع قد هدّت ركني المنظومة العسكرية للجبهة الإسلامية القومية، رشدّت نظرة المجتمع الغربي الذي حاول تسويق بضاعته الكاسدة عبر فئة من اليساريين والقادة الوهمين، فضحت تراهات الاسلاميين وبيّنت عدم نضجهم الأخلاقي والفكري، قطعت قلب النخب السياسية التي كانت حتى عشية الانقلاب الأخير لا تتوانى عن التراخي والتهاون والتلاعب بقضايا الجماهير، أبانت للكل أن التركيز على تقنين سبل الحكامة أولى من التركيز على مظاهر الديمقراطية في بلد يعاني من تفشي الأمية الأبجدية والحضارية، فضحت مستوى البلاهة والبلادة ورداءة الضمير اللاتي تعاني منها نخب الهامش التي سميت زوراً وبهتاناً “حركات الكفاح المسلح”، أشاحت عن حجم الفقر المعنوي والمادي الذي تعانيه العامة التي ما إن غاب الرقيب عنها حتى اجتاحت المتاجر والمخازن، أوضحت أن الميزانيات التي كانت ترصد للاجهزة النظامية ما هي إلّا رشاوى واتاوات كان يتلقاها كبار الضباط، والأهم من ذلك كله أوضحت للشعب كافة فداحة التعامي عن الواقع وخطورة التماهي مع الظلم لعقود من الزمان.