العودة الى الجذور هربا من الشرور

0 40

كتب: جعفر عباس

.

عندما اشتد وطيس الحرب، التي تدور معظم معاركها في عاصمتنا حاليا، كان لابد للناس الفرار من جحيمها طلبا للنجاة، وتابعت مجموعات (قروبات) أهلي من جزيرة بدين خلال المحنة في واتساب، ووجدتها في حالة “نفير” تتناول كيف تخرج من العاصمة وأين ومتى تجد البص الذي سينقلك الى بدين واي الطرق هي الآمنة، ومن اتجهوا شمالا من العاصمة ظلوا طوال رحلتهم يرسلون تقارير مقتضبة: وصلنا المكان الفلاني.. لا وجود لمظاهر عسكرية ما بين كذا وكذا… نحن الآن في المعدية من كرمة الى بدين.. دخلنا الجزيرة سالمين
في ظل محنة الحرب الحالية لم يكن للآلاف من ملاذ غير القرى التي هجروها كليا او نزحوا عنها مؤقتا طلبا للرزق، وعند الوصول الى القرية يسري الإحساس بالأمان والانتماء في النفس، فترتاح، وهناك حاليا آلاف الأطفال الذين جعلتهم ظروف الحرب يرون لأول مرة تلك المناطق التي كان الوالدان يشيران الى الواحدة منها ب”البلد” في سياق احاديث تبدأ ب”زمان نحنا في البلد…..”، وقد يتضايق الصغار بادئ الأمر “لأن الدبليو سي حفرة” وقد يخشون ان يخرج منها ثعبان او بيبي ديناصور، ولكنهم ما ان يخالطوا أهلهم في البلد ويكتشفوا أن لديهم عشرات الأقارب حتى يجدوا انفسهم متدثرين بالحب والرعاية والبسمات، يطالعون ويسمعون ما يشي بأن اهل القرية جميعا أسرة واحدة، ويضحكون بادئ الأمر عندما يسمعوا صوتا عاليا متقطعا فيأتيهم التفسير: دا تيس عمتنا بخيتة.. ثم خرخرخر.. دا حمار جبر الدار عنده التهاب جيوب انفية .. آآخ يا أبوي.. دا عزو المستهبل عامل فيها عيان. فيدرك الصغار ان اهل القرية في حالة تصالح مع كل الكائنات حولهم.
ولجأ الآلاف من سكان المناطق الواقعة في قلب مدن العاصمة الثلاث الى الأحياء الطرفية: الحاج يوسف والسامراب والدروشاب والعزوزاب وام بده والصالحة وغيرها، وفعلوا ذلك لأن سكان تلك الأحياء بهم روح القرية، فرغم ان الخرطوم مثلا تريّفت، أي صارت ريفية في السنوات الأخيرة، إلا أن بعض أهلها نزعوا أخلاق ومُثُل وقيم القرية، وصاروا كالغراب الذي دهن ريشه بصبغة بيضاء تشبها بالحمام فما عاد غرابا ولا حماما، بينما ظل سكان أطراف المدن أكثر تمسكا بتلك الأخلاق والقيم.
قال لي الأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي د. محمد فتح العليم ذات مرة إنه وعند إصابته بأي مرض يركب سيارته ويذهب الى أمه وفور أن يضع رأسه في حجرها يحس بأن معظم ألم المرض قد تبخّر، وعند الألم او الحزن الشديد يجد الانسان نفسه وقد تكوّر و”تكرفس” بضم ركبتيه الى صدره وهو يمسك بهما باليدين. إنه وضع الجنين الذي يتخذه الانسان لا شعوريا طلبا للإحساس بالأمان والراحة، كما كان حاله في رحم أمه، ونحن جميعا ذوي أصول قروية ولهذا لم يجد كثيرون منا ملاذا آمنا إلا في رحم القرية/ الأم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.