ربيع السودان وحربه: هل ركبنا سبيل ليبيا وسوريا واليمن؟ (1-2)

0 53

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(خيم شبح مصائر ليبيا وسوريا واليمن على تجربة الثورة السودانية في مخاض اسقاط نظام الإنقاذ وفي ما بعده. وبدت هذه الحرب القائمة اليوم مصداقاً لمن رأوا بعين زرقاء اليمامة أن التغيير في السودان سيهلك كما هلكت هذه البلدان. وأناقش في هذه الكلمة أن التنبؤ بهلاكنا، سعد، كما هلك سعيد كان مجرد فألً سيئً نجم عن مقارنات عرجاء لا تصمد أمام التحري الموضوعي. ونريد بهذه المناقشة أن نوطن هذه الحرب نفسها في الثورة ومطلبها في المدنية مبرأة من العسكرية المهنية وعسكرية الخلاء التي خرجت من رحمها. فالحرب الناشبة لم تقع خارج هذه المطلب الذي لم يعد له من راد. إنها المطلب نفسه تعتريه حالة عسيرة. وجاءت إليه المهنية العسكرية أخيراً لتستأصل ذنوبها التي ولدتها في طريقها الضال الطويل على دست الحكم قبل أن تعود إلى الثكنات: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل)

 

إذا كنت من بين من حذر السودانيين خلال ثورتهم في عام 2018 من مصير ليبيا وسوريا واليمن بعد ربيعها العربي، فدونك الحرب القائمة ليومنا حجة دامغة عليهم. فظل شبح خرائب التغيير بالثورة في هذه البلدان يخيم على خطاب الربيع السوداني، وبخاصة محاذير “نظام الإنقاذ” نفسه من تحويل البلد إلى مصائر هذه البلدان، إن أهلك السودانيون سلطانه. ويخيم الشبح الآن بالطبع بقوة بعد اندلاع الحرب. فالمبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي جفري فيلتمان، خلال عامي 2021 و2022، خشي أن تتحول الحرب في السودان “إلى أمر مشابه لسوريا أو ليبيا، مع فارق أنه سيحصل في بلد عدد سكانه أكبر بكثير”. وعبر المدير السابق لمكتب المبعوث الأميركي للسودان كامرون هدسون عن مخاوفه أن يصبح السودان مثل “ليبيا تحكمه مجموعات من الميليشيات المسلحة، أو كسوريا”.

وسنأتي إلى صحة مماثلة السودان في خصائصه السياسية والعسكرية لهذه البلدان بعد أن نعرض للمخاطر التي انطوت أصلاً على اصطناع “حكومة الإنقاذ” لجيش ثانٍ هو “الدعم السريع”، حتى لا نرد الحرب بين الجيشين حصراً إلى الثورة، فقد كانت الحرب من ضمن مخاطر مدخرة للعسكرية السودانية بوجود جيش تاريخي مهني وجيش ضرار اصطنعه نظام سياسي بات يخشى من جيشه نفسه. فمتى أذنت أمة حديثة بفك احتكار السلاح، أي احتكار العنف البدني، فرقت دم أهلها بين القبائل المسلحة، إذا جازت العبارة. وهذا باب للحرب بين جيشي الضرار ضمن احتمالات عنف أخرى. فبعض الأمانات مما لا يشرك فيه.

ويروى عن الشيخ علي التوم، ناظر شعب عرب الكبابيش بشمال كردفان (ت 1932)، أنه زار حديقة الحيوان بلندن ضمن بعثة من زعماء السودان لتهنئة ملك بريطانيا بالنصر في الحرب العالمية الأولى، فاستعجب للجمل ذي السنامين فيها. فلم يرَ مثله قط من قبل، وهو الذي رعى الإبل طول عمره. فقال “يبدو لا بأس به، إلا أن ركوبه لا بد أن يكون شاقاً جداً”. وهكذا، الجيش ذو السنامين ربما خدم غرضاً لحاكم ما، ولكنه عصي على الركوب ومكلف.

بدا تشبيه السودان بليبيا وسوريا واليمن من حيث المصير، بعد ربيعه، نوعاً من الفأل السيئ أكثر منه علماً سياسياً. فلم نخضع خصائص السودان العسكرية السياسة بعد لنظرة مستقلة لنرى إن كان يصدق عليه ما صدق على ليبيا وسوريا واليمن، حتى نحذر دون المخاطرة بتغيير ما بنا بالثورة.

لم يبن القذافي في ليبيا جيشاً إلا بالاسم، فعلى رغم أنه توسع فيه نفراً، فإنه حل عقدة القيادة فيه بأحابيله في مثل تكوين “جماهيرية” الجنود التي تملك حق عدم إطاعة أوامر القيادة، علاوة على قيام التعيين فيه بمحاصصات قبلية. وأهمل الجيش بالكلية بعد هزيمته النكراء في تشاد. وألغى وزارة الدفاع نفسها ليرمي بثقله في حماية حكمه بالقوات الخاصة واحدة بعد أخرى حتى أنشأ الحرس الجماهيري في 1987-1988. وجعل القذافي على شبكاته الأمنية والعسكرية رجالاً من الدرجة الأولى في القرابة منه. وجاءت عناصرها الأخرى من القذاذفة، قبيلته، وحلفائها من مثل الورفلة والمغارثة.

ولما قامت الثورة في عام 2011 لم يكن بليبيا جيش بالمعنى المعروف. وملأت الفراغ الفرق الثورية المسلحة سيئة الظن بالجيش لخوفهم من أن ينقلب عليهم. ونتيجة لذلك لم تشرع قوى الثورة التي لم تكن لها قيادة مركزية، في بناء منظومة عسكرية وأمنية. وبذلك صار السلطان في الدولة لهذه الفرق تتنافس فيما بينها في السيطرة على مرافق الدولة، وفي حيازة الأراضي، وجني المنافع لتمويل نفسها. فاستباحت، حين توحدت في “معركة الكرامة” ضد قوات حفتر، الذي هو جيش بأمره “البنك الوطني” لتصرف على نفسها صرف من لا يخشى الفقر.

من جهة أخرى، سادت الثنائية العسكرية السورية منذ عهد حافظ الأسد. ففي يومنا الراهن تجد الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد، نداً، بل خصماً للجيش. وهو وضع يعود إلى أيام حافظ الأسد الذي أنشأ سرايا الدفاع بقيادة أخيه رفعت الأسد الذي ما لبث أن انقلب عليه في عام 1984، وأنشأ في الوقت نفسه الفرقة الرابعة التي يقودها الآن ماهر الأسد. وقامت الفرقة الرابعة والسرايا بتأمين دمشق وحماية النظام من أعدائه، كما قام الحرس الجمهوري الذي يقوده الآن بشار نفسه. وفي ظرف سوء ظن النظام بجيشه، الذي ضربته انقسامات الضباط السنة، توسعت الفرقة الرابعة في أرجاء البلاد بعد الحرب. وصارت لها اليد العليا على الجيش الذي داخلته الميليشيات، وأنهكه طول الحرب.

وتكونت الفرقة الرابعة من أربعة ألوية وثلاثة أفواج من المدرعات وسرايا تخصصية فنية منها الكتيبة الكيماوية التي لا تجدها في الجيش نفسه. وللفرقة سلاح طيران ومنظمة صواريخ ومصانع للباس العسكري. وتشكلت في داخلها كتيبة معروفة بالانتحارية مؤلفة من 660 عنصر لتلافي الأوضاع بعد انهيار النظام متى سقط، مما جعلها جيشاً كاملاً من 16 ألف عنصر و500 دبابة ومصفحة، وجهاز أمن مستقل غزير العدد. وتدربت الفرقة في حرب المدن التي لا يحسنها الجيش. وعقائدية الفرقة لا خفاء لها. فتبلغ نسبة العلويين في قيادتها وقاعدتها 95 في المئة، مما يجعلها علوية في الصميم. وعليه فهي أداة علوية مرتبطة بالسلطة بشكل مباشر ووثيق. وتلقى الدعم الإيراني بسند من “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” اللبناني في عملياتها.

في مقالنا الثاني نعرض لأوضاع الجيش في اليمن ونخلص إلى الطعن في المقارنات العرجاء التي انعقدت عن مصائر الثورة بيننا وبين ليبيا وسوريا واليمن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.