بانوراما الحرب.. وقت النزوح

0 48

كتب: فايز السليك 

.

كان السؤال صادماً، بل كان الحال صادماً، هل نحن لاجئون؟ جاء عقب حديث لمطربة شهيرة، أشارت فيه إلى أن من عبروا الحدود، وسافروا بأموالهم هم ليس لاجئين، فرد البعض مستنكراً، رافضاً كلامها، ومضمونه أن السودانيين لم يعرفوا اللجوء!.
الحرب! اشتعلت ألسنتها في قلب مركز البلاد المهترئ، إلا أنها ليست جديدة، فعبر تاريخنا لم يتوقف دوي المدافع، ولم تحبس آلات الدمار أنفاسها.
ما الجديد؟ هل نحتاجنا الى إعادة اكتشاف الذات من جديد؟.
المطربة رأت أن عابري الحدود حملتهم قدرتهم المالية، سوف يدفعون إيجار مساكنهم؛ إن لم تكن من ضمن أملاكهم، من هبطوا ارض مصر سوف يتوزع بعضهم ما بين مدينتي، الشروق، شيخ زايد، مدينة نصر، المعادي، قاردن سيتي، وايضاً هناك من يسكنون العجوزة والزمالك، وغالبية ستذهب الى الفيصل، عين شمس، ارض اللواء. هل هم لاجئون؟.
البعض، وهم كثر سوف يقصد مفوضية الأمم المتحدة للاجئين.
نعم حملوا في دواخلهم ندوباً وجروحاً ، ليس من بينهم من نجا من رعب قصف، او شبح موت، الموت قاب قوسين او ادنى!.
الجديد، أن كثيرين منا كانوا يسمعون بالحرب من نشرات الأخبار، كان القتال اليومي الدائر كأنه في بلادٍ بعيدة، كانوا يستمعون لأخبار القتال في العالم مثل اخبار الكوارث الطبيعية، الزلازل والبراكين، الفيضانات، تسونامي، تورنيدو، وكل ما يصبح فصلاً من فصول رواية، مشهداً درامياً ضمن فيلمٍ من أفلام الآكشن، تسونامي بعيد، يترك صدىً خفيفاً لدى متلقي الأخبار، لكن كيف الحال حين تكون أنت الخبر؟
أبابيل السخوي، انفجار الهاونات، نيران الآربجي، شظايا القنابل اليدوية، بكاء طفلةٍ من الجوع، وسؤال طفلٍ حائر ( هل سنموت؟).
الجديد هو انتقال الحرب الى دواخلنا، عشنا تفاصيلها بدلاً عن الاستماع اليها من بعيد، صرنا خبر اللجوء والنزوح؛ بدلاً عن تلقينا لتلك الأخبار في هوامش البلاد.
هنا، في روايتي ( مراكب الخوف) تروي تريزا، رحلة النزوح.
مقاطع من روايتي ” مراكب الخوف ” ..
وهل ينسى ذاك اللقاء؟. فهو مثل الفاصل بين مرحلة وأخرى، أو مثل نقطة ضوءٍ كثيفٍ تسربت من وسط عتمةٍ طال أمدها، وأسس لذكرى بين الظلام والنور.. يذكر حين لقائها تماماً أن في ذلك اليوم كان قد احتواه شعورٌ جديد ومغاير ، لون تريزا مزيجٌ من لون الكاكاو، ولون البن المحروق، قوامها ممشوق، تشبه عارضات الأزياء العالميات، تعلو شفتيها ابتسامةً ناصعة البياض، لكن ثمة شيئٍ آخر كان يميزها، كانت للفتاة رائحة مثل عبق الصندل، تنثرها حين تضحك، أو تهبها لمن تحب، مع أن حزنها قديم، وضحكها بمقدار.
ما قالت له فى التحقيق الصحفى شيئاً عن مكان أسرتها، أو عن مصير هم، بل؛ أن كل ما تتذكره هو أنها كانت طفلةً، حتى أنها لا تتذكر كم كانت تبلغ من العمر؛ حين نفذت خيول غريبة غاراتها الموسمية في أحد مواسم الشتاءات الكئيبة، وأن الخيالة أضرموا النيران ، وأحرقوا تلك القطاطى التي كان يسكنها أفراد القبيلة. تشتت الناس وسط أشجار الغابات الكثيفة؛ فيما مات آخرون ، مثلما أخذ الخيالة معهم آخرين؛ كان معظم أفراد الفئة المختطفة من النساء والأطفال . لكنها نجت هي من موت محقق ، ولا تدري كيف تم انقاذها، لكنها لا تزال تذكر ركض الخيول، وتسمع وقع الحوافر، وترى ألسنة اللهب في القطاطي، فقد انحشرت تحت حشائش كثيفة، تخطتها أقدام الخيول المسرعة، وها هي اليوم تعيش بين الناس، تأكل ، وتتنفس، ولو سئلت لماذا تفعل ذلك لردت مثلما يفعل الناس.
قالت له :-
– ربما ماتت أمي وأبى وإخواني السبعة . أو ربما لجأوا إلى بلاد بعيدة .
واصلت حديثها ضاحكةً:-
– أو ربما يكونون حولي . وليس مستبعداً أن يتزوجني احد إخواني رغم أن ذلك سيغضب الآلهة .
ولما كبرت تريزا دون أن تجد عائلاً، أو أن تجد حولها من يقوم برعايتها، أو من يمنحها ثمن الرغيف ، تمكنت من اقتناء بعض من الأواني والأكواب واحترفت مهنة بيع الشاي في الطرقات ضمن عشرات من الشابات ممن يقاسمنها ذات طعم الحياة، وهن يشبهنها في كثير من التفاصيل مع أن معظمهن يعرفن أصلهن، أو حتى يقمن مع ذويهن، أو أزواجهن، أو اليتامى من أطفالهن، بما في ذلك القادمات من وراء الحدود، من فوق تلك الهضبة، أو تلك الصحراء، ممن عصفت بهن عواصف النزوح الى الشمال . وهناك؛ صارت بائعات الشاي وشماً في جسد تلك المدينة، يتانثرن في الطرقات، وأمام المكاتب، وتحت ظلال الأشجار، وأشجار المدينة باهتة ، وهي تشكو كذلك اعتداءات مستمرة عليها، فليس من الغريب أن تقطع شجرةً كي يشيد في محلها ” كشك” لقوات الشرطة، أو ربما تظن بائعات الشاي أن السلطات تعشق لعبة القط والفأر معهن، فما أن ترى شجرةً وارفةً منحت الظلال لبائعة شاي فستقوم بقطعها.
شكت تريزا لمجدي في براءة مطاردة السلطات لهن ومصادرة أوانيهن. كما أخبرته عن تعرضها للجلد بضع مرات؛ قالت ” مرة كدة شالونا بالعربية من الشارع، وكان العساكر يشتمونا ويلعنونا ، وكمان بقولو كلام غريب، الكلام بكاني والله شديد، وبعد داك كمان ودونا قسم شرطة وحكموا علينا بالجلد، جلدونا جلد شديد، وفي واحدة قربت تموت، وواحدات بالن على هدومن، | القاضي قال نحن بنبيع العرقي، .. صمتت تريزا ثم واصلت بحزن.. والله أنا عمري “ما ضُقت” عرقي، لكن اليوم داك اتمنيت أشوف العرقي وأشربوا كمان” ، سقطت دمعات من عيني مجدي، وقبل أن يتمالك أعصابه أرسلت تريزاً قذيفةً أخرى ، وكانت هذه موجعة، لقد قالت له .. كانوا بسمعوا كلام ناس البوليس بس، ثم أقسمت بالله أنها شعرت بالغربة، وتمنت أن يكون لها بلداً آخراً.
لقد غشت المكان سحابةًكثيفةً من الحزن، وشعر مجدي بضآلته، وهو يحاول نفسه ” حقاً هل تبحث تريزا عن وطنٍ آخر؟. وطن من هو؟ وهل هذا يحدث في بلاد نظنها بلادنا؟. وقبل أن يغرق في لجة التساؤلات تلك ؛ أعادته تريزا إلى واقع الحياة، وهي تقول ببراءة لم يعهدها.
– أخافني الراديو بقوله أن ببيع المريسة حرام، مع أن أهلنا يؤكدون أن ذلك لا يغضب الآلهة.
ضحك هذه المرة، وأخذ بفكر ما بين الراديو وغضب الآلهة، على حسب زعم تريزا. وبعد ساعات خرج من الحي، و في تحقيقه الصحفي؛ كتب مجدي أن تريزا تؤثر أن تبقى روحها حرةً رغم محاولات الاغتصاب المتكررة التي تتعرض لها دوماً، فهي تحلق في الفضاء عصفورةً تعشق الغناء ، تهفو لأجواء استوائية كانت قد منحتها عبق صندل، صدقها مجدي حين أقسمت أنها لم تمارس تلك المهنة لأنها كانت تسمع فى الراديو عن حرمة الخمر، وعن مصير الذين يمارسون مثل تلك المهن .
قالت:-
.لم يكن عبقها عطراً مصنوعاً.كانت قد أتت بذاك العبق من الغابة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.