مرة أخرى وغير أخيرة مع أختنا العزيزة رشا عوض
كتب: محمد جلال أحمد هاشم
.
واصلت أختنا وصديقتنا العزيزة رشا عوض كتاباتها التي وصفناها بأنها كتابات مغبونة، تنضح بالمرارة والغضب، وقد خصتني منها بقدر ما تخصني من محبة وتقدير كبيرين، أعرفهما واعتز بهما.
وقد فعلت كل هذا في نفثات وزخات، بل في دفعات متتالية، فتحت فيها نيران مقالاتها بالضبط كما يفعل الجنجويد عندما يفتحون نيرانهم بكثافة ضد طائرات تقع خارج مرمى نيرانهم. فليت رشا عوض كانت قد أنجزتنا ما تعد، فأصابتنا في مقتلٍ فكريٍّ، إذن لكانت قد أحيتنا، فالمقاتل الفكرية حياةٌ لأولي الألباب. ولكنا شهدنا لها بذلك. بيد أنها كما لو استبدت برأيها، ليس مرةً واحدة، بل عدة مرات.
وأكثر ما ازعجني في كتابات حبيبتنا رشا عوض هو أنها لا تبدأ من مناقشة المواقف أخذاً بناصية النصوص اقتباسا واستشهادا، ثم تحليلا، بل تقوم بتلخيص مواقفنا بطريقة البيع بالجملة. وتبعا لهذا، لا تأتي ردودها متموضعة على ما قلناه وصدعنا به. فهي تتهمنا بأننا ندعم الجيش، وعندما نشرح لها خطل ما استنتجته، تقوم باتهامنا بالاصطفاف خلف الجيش … إلخ. وطبعا نحن لم نبادرها بالكتابة، ولهذا جاء ما قلناه في شكل ردود آنية لما قالته بحقنا. وربما هذه هي المرة الأولى في خلال هذه الحرب التي افترع مقالا لمناقشة كلام كتبته أختنا المغبونة، حبيبتنا رشا عوض.
***
أدناه، بجانب تحري فائدة المناقشة والمحاورة، سوف أحاول أن اضرب لرشا عوض مثالا أعلم أنها تقف منه موقف الأستاذة معرفةً وعلما، لكن كما لو زلت قدمها دونه لما يعتريها من غبن.
وبمناسبة الغبن والكتابة المغبونة، ردت رشا عوض في آخر مقال لها خصصته عني، بما رأت أنه تناقض وقعتُ فيه، ذلك عندما أشارت إلى ما ظللت أكتب عنه وأسميته بالغبن النبيل، مقرّةً بأن ما هي عليه ربما كان نوعا من أنواع هذا الغبن النبيل، وبالتالي كما لو أن بضاعتي قد رُدّت إليّ. نعم، ما تقوله صحيح، لكن على وجهٍ دون ما اتّكأت عليه تأويلا، لا تحقيقا. فالغبن النبيل (وحتى غير النبيل) عندما يتشكل بوصفه ظاهرة اجتماعية لقطاع اجتماعي بعينه، ينبغي، أولا، احترامه، وثانيا دراسته من حيث عوامل تشكله وتداعياته، دون الإزراء به، دع عنك إدانته. وهذا ما ظللت أدرسه وأكتب عنه لما يقرب من نصف قرن من الزمان. وهنا نلاحظ أن رشا عوض لم تتبع منهج العلم الذلول في إيراد الفكرة المراد نقدها من مظانِّها، ثم تفكيكها خطابيا عبر تحليلها، خلوصا إلى النتائج. فكل ما فعلته هو فتح رشاشات الكلام بطريقة مليشيوية ودون أي تركيز أو تصويب. نقطة أخرى – في معرض الرد عليها، تتعلق بالغبن كحالة فردية. فهذا شعور إنساني وطبيعي إزاء الظلم الممنهج والطويل. وربما جميعنا مغبونون من الكيزان ونظام الإنقاذ. لكن استشهادي المتكرر بمقولتي “المُغتبِن غير فطِن” لا تتعلق بهذا، بل بالمثقفين الذين يباشرون الكتابة وهم منتفخون بالغبن؛ هؤلاء تنحجب عنهم مخايل الذكاء والتفكير السليم والنقدي. هؤلاء أشبه بالقاضي الذي يستصحب معه في أحكامه كل تحيزاته. وبهذا تنحجب عنه كل معرفته بالقانون، بمثلما تنحجب دونه ذكاؤه القانوني والعدلي.
***
إزاء قولنا هذا، وبدلا من استعقاله بالوجه الذي كيّفناه به، ذهبت أختنا رشا عوض إلى الظن بأننا نعرّض بها وبعقلانيتها، اتهاما لها بأنها موسوسة، ممسوسة، وحاشاك يا ست الكل! فأنت أنت من حيث عرفناك رجاحة عقلٍ وقلبٍ كبير، جُبلا على نجاعة المواقف فكرا وشعورا. وكما قلت لك من قبل في الخاص، مقعدُك عندي في سويداء القلب وفي مركز الدماغ من بين المخ والمخيخ، ولن يشغُرَ كرسيك عندي أبدا، ذلك لأنك احتللتِه عن جدارة واستحقاق. وفي الحقِّ، ما وصفي لكتاباتك الأخيرة بالمغبونة إلا من باب المحبة لك وحرصا على استعادتك من فضاءات سديم الغبن، لتدوري مرة أخرى، كما كنت وكما ستكونين، في فلك النجوم الزاهرة التي يستهدي بها الناس في بلادنا المنكوبة هذي.
***
بعد هذا، إسمحوا لي يا سادتي أن أدير الحوار أدناه مع صديقتنا رشا عوض، توسيعا لدائرة المحاورة والمفاكرة، ثم لأضرب مثلا حيا، قدر المستطاع، لرشا عوض ولغيرها، في كيف نقارب وجهات النظر التي نريد مناقشتها، ذلك أولا بأن نورد الاقتباس الكافي من جملة النصوص من مظانِّها، ثم نقوم بتفكيكها خطابيا، وأخيرا إما وصلنا إلى أحكام بعينها، أو إلى فتح مجالات جديدة للأسئلة، أو كليهما.
***
في مقالتها تحت عنوان “الكيزان يفوقون سوء الظن العريض” بتاريخ بتاريخ 18 أبريل 2023م،
تقول صديقتنا رشا عوض:
“نحن كمنحازين للديمقراطية بكل الصدق نسعى لبناء دولتنا المدنية ذات الجيش القومي الواحد، وبكل الوطنية نريد الوصول إلى محطة الجيش الواحد دون سفك دماء وفي إطار عملية إصلاح أمني وعسكري شاملة، تنزع بالتدريج الألغام التي زرعها نظامكم في الدولة السودانية، ولو وصل الإصلاح الأمني والعسكري إلى محطة الدمج والتسريح، ورفض حميدتي وقال انه يريد الاحتفاظ بجيشه إلى الابد وتحدى ارادة الشعب السوداني وأغلق الأبواب تماما في وجه بناء الجيش الواحد، في ذلك الحين ستكون المواجهة مع الدعم السريع ذات مشروعية سياسية واخلاقية، وسوف يقودها الجيش الوطني بالعقل الاحترافي للجيوش بعيدا عن المستشفيات والمدارس وبيوت المواطنين، وبعد استنفاذ كل الوسائل السلمية لاكمال الإصلاح الأمني والعسكري والدمج والتسريح سلما، وحينها كنا سنهتف جيش واحد شعب واحد لان المعركة حينها ستكون وطنية بحق تحت مظلة مشروع وطني ديمقراطي”.
***
حسناً! دعونا نجتزئ من هذا الاقتباس الجملة التالية:
“… ولو وصل الإصلاح الأمني والعسكري إلى محطة الدمج والتسريح، ورفض حميدتي وقال انه يريد الاحتفاظ بجيشه إلى الابد وتحدى ارادة الشعب السوداني وأغلق الأبواب تماما في وجه بناء الجيش الواحد …”.
فهل نفهم من قولها هذا أن خطوات الإصلاح الأمني والعسكري سوف تبدأ لتصل لاحقا إلى “محطة الدمج والتسريح”؟ أم أن أولى خطوات الإصلاح الأمني والعسكري ينبغي أن تبدأ بحل مليشيا الجنجويد (وليس دمجها)؟ فموقف الثورة والثوار واضح، لا لبس فيه، وهو “الجنجويد ينحل”. الواضح تماما لدينا هو أن هناك موقفان متناقضان تجاه أزمة وجود مليشيا ضخمة عددا وعتادا كالجنجويد في مواجهة الجيش وبصورة مستقلة عنه. الموقف الأول هو موقف الثورة والثوار وهو “الجنجويد ينحل”. ثم هناك الموقف القحاتي الداعي إلى دمج مليشيا الجنجويد داخل الجيش (رشا عوض هنا تذكر مصطلح “التسريح”، وهو ما لا ذكر له في مسودة دستور المحامين، أو في الاتفاق الإطاري، أو في مسودة الاتفاق السياسي). وعليه، موقف قحت مفارق تماما لموقف الثورة والثوار! ترى مع أي الموقفين تشير اللغة التي تستخدمها رشا عوض أعلاه؟ إنها تشير بوضوح إلى اتفاق موقف رشا عوض مع موقف قحت. إذن، بالرجوع إلى ما ظللنا نقوله في وجه رشا عوض بخصوص الموقف الثوري من مليشيا الجنجويد هو ليس للاستهلاك والاصطفاف أو دعم الجيش في هذه الحرب، ببساطة لأنه موقف ثوري، مبدئي سابق لهذه الحرب، واكثر من ذلك لديه جزؤه الخاص بالجيش. وفي المقابل، يأتي موقف أختنا رشا عوض متماهيا تماما مع الموقف القحاتي الداعي ليس فقط لدمج مقاتلي مليشيا الجنجويد في الجيش، بل وفي مراحل أيضا سوف تأتي بعد إجراء الإصلاحات الأمنية والعسكرية (“… إصلاح أمني وعسكري شاملة، تنزع *بالتدريج* الألغام التي زرعها نظامكم [تخاطب هنا الكيزان] في الدولة السودانية …”) [التضعيف من عندنا].
يا سادتي الموقف الثوري المعلن والمؤكد هو أن تبدأ إجراءات الإصلاحات الأمنية والعسكرية الهيكلية والعقدية بخطوة متزامنة، هي عودة العسكر للثكنات وحل مليشيا الجنجويد مع تشكيل حكومة مدنية تقوم بإتمام عملية هذه الإصلاحات الأمنية والعسكرية للمؤسسة العسكرية في غياب الجنجويد الذي يكون قد انحلّ. أما ما تقوله أختنا العزيزة رشا عوض فلا يتفق مع هذه الخطوات، بل يتفق بطريقة وقع الحافر على الحافر مع موقف قحت المفارق لخط الثورة. فماذا تقول رشا عوض إزاء هذا؟
***
ونسأل رشا عوض، بخصوص مراحل الدمج (والتسريح الذي قالت به دون أن تقوله جميع وثائق قحت)، لكم من الشهور والسنوات سوف تستمر هذه العملية؟ سنة؟ سنتان؟ خمس سنوات؟ أم هي عشر سنوات كما رشح في الأخبار؟ وهل خلال كل هذه المرحلة ستظل فيها مليشيا الجنجويد، بحسب قانونها الحالي، مستقلة بنفسها عن الجيش المراد دمجها فيه، وتقودها أسرة؟ ما هي الضمانات التي لدى رشا من أن ما ذكرتْه من باب الافتراض إذا ما (“… رفض حميدتي وقال انه يريد الاحتفاظ بجيشه إلى الابد وتحدى ارادة الشعب السوداني وأغلق الأبواب تماما في وجه بناء الجيش الواحد، في ذلك الحين ستكون المواجهة مع الدعم السريع ذات مشروعية سياسية واخلاقية، وسوف يقودها الجيش الوطني”)؟ فهي هنا تتكلم عن مشروعية الحرب كرد فعل وطني إزاء رفض حميدتي. حسناً! تحت أي قيادة سوف يخوض الشعب وقتها هذه الحرب المشروعة (طبعا مشروعة بحكم الضرورة – شفتوا كيف)؟ بحسب منطوق كلام أختنا رشا عوض، “… سوف يقودها الجيش الوطني”! إذن فإصلاح الجيش سوف يسبق عملية دمج مليشيا الجنجويد! هذا هو عين ما تشير إليه اللغة التي تستخدمها أختنا رشا عوض، وعلى رشا عوض أن تحدد لنا موقفها بشجاعتها التي عهدناها فيها: هل هذا هو فعلا موقفها، أم ماذا يعني، أم هو رشاش كلام طائش جراء وقوعها تحت طائلة الكتابة المغبونة؟ ونحن في انتظار ردّها.
***
تم دعونا ننظر فيما تقوله رشا عوض بخصوص طبيعة الحرب المشروعة في حال رفض حميدتي دمج المليشيا التي يقودها (بعد اكتمال الإصلاحات الأمنية والعسكرية)، إزاء المعارك الدائرة الآن بين الجيش ومليشيا الجنجويد. تقول: “… وسوف يقودها الجيش الوطني بالعقل الاحترافي للجيوش بعيدا عن المستشفيات والمدارس وبيوت المواطنين”. وهنا نتوجه للعزيزة رشا عوض بالسؤال التالي: أي القوتين العسكريتين (الجيش أم مليشيا الجنجويد) التي احتمت بالمستشفيات والمدارس وبيوت المواطنين واتخاذهم كدروع بشرية (دون أن نقول شيئا عن النهب والسلب وحرق المؤسسات الخاصة والعامة والفوضى التي أشيعت والإذلال المتعمد للمواطنين وقتلهم لأتفه الأسباب)؟ هل هو الجيش الذي فعل ذلك، أم هي مليشيا الجنجويد ولا تزال تفعل؟ هذا سؤال لا يستحق فقط الإجابة، بل يجب أن تتبعه الإدانة التامة، بلا أي تحفظات أو رتوش! ونحن في انتظار إجابة أخونا رشا عوض على هذا السؤال تحديدا، ذلك ضمن انتظارنا لمجمل ردودها. ثم سؤال آخر، إذا قامت هذه الحرب المشروعة بحسب توصيفك وتكييفك لها، ثم قامت مليشيا الجنجويد بالاختباء داخل المستشفيات والمدارس والمؤسسات العامة والخاصة واقتحام منازل المواطنين وطردهم، ثم سلبهم، واتخاذهم كدروع بشرية (كما فعلت وتفعل الآن)، فماذا وكيف ستصفين هذا؟ وكيف كنت ستتعاملين معه بوصفك كاتبة رأي لها وزنها المشهود، غير المنكور؟ نحن أيضا في انتظار ردك لهذا السؤال مقروءا بما يجري الآن.
***
وبعد، كما ترون، هذه مقالة تحليلية لفقرة واحدة من عدد كبير من مقالات أختنا رشا عوض التي تترى علينا صباح مساء. هذا ليس تحليلا لمجمل كتاباتها، بل لفقرة واحدة فقط! وقد ركزنا عليها لما تحتوي من كلام يبدو في ظاهره كما لو كان واضحا، بينما هو، في أفضل الأحوال والاحتمالات، يثير من الأسئلة بأكثر مما يجيب عليها. وكما ذكرنا، بجانب تشريع وتوسيع دائرة المفاكرات والمحاورات، قصدنا منه ضرب مثل حي في كيفية ترشيد الحوار وتقعيده على نصوص كافية، ومملّكة لجماهير القراء.
***
ثم لا أختم إلا بتحية صديقتي العزيزة والحبيبة رشا عوض!
***