المتحف القومي السوداني: لا يمثلني فليذهب
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
روع خاطر السودانيين فيديو ذاع قبل أسبوعين تسمع فيه خطوات لجند من “الدعم السريع” تجوس صالات المتحف القومي في الخرطوم. وترافقت مع ذلك الجوس تعليقات من أحدهم وهو يمر بمومياوات في توابيتها قائلاً إنها جثث تملأ المكان، وإنها من ضحايا “الكيزان” (الإسلاميين). بما فهم منه أن تلك المومياوات طائفة من قتلاهم أخفوها عن العيان. ومن الصعب تصديق أن المجند المعلق، وهو في متحف معروف بالاسم، جهل أنه إزاء جثث من القرون الأولى، ولكن كل شيء جائز طالما أساء تعليقه للإسلاميين الذين تتهمهم قوات “الدعم السريع” بأنهم يقفون وراء تحريض القوات المسلحة على الحرب. ومن المطمئن أن الأخبار اللاحقة أفادت بأن “الدعم السريع” غادر المتحف بعد احتلاله لبعض الوقت بغير خسائر معلومة.
ولن يفهم المرء زيارة “الدعم السريع” الموجزة للمتحف إلا بالنظر إلى ثقافة الجدل بين هامش السودان ومركز الحكم في الخرطوم الواقع بيد صفوة الشمال النيلي. وهو مركز لم يفشل في حكمه المتطاول للسودان فحسب، بل أدمن الفشل أيضاً في عبارة لواحد منه، هو منصور خالد، تملأ أصداؤها المكان كلما عرضت أزمة الحكم عندنا للنقاش. وتواصت قوى الهامش، لضمان عافية البلد، على الاستغناء عن ذلك المركز وإحلال مركز بديل له.
ولطالما كان الهامش ناقماً على مركز لم يحسن له لنحو ثمانية عقود منذ الاستقلال، فاعتبر أن تاريخه ذاته مما جاز أن يلقى في مزبلة التاريخ المجازية. فليس تفهم احتلال “الدعم السريع” لدور رموز الحركة الوطنية والدولة السودانية مثل الزعيم إسماعيل الأزهري والفريق إبراهيم عبود والسيد الصادق المهدي، وحرائق مكتبات مثل مركز محمد عمر بشير بجامعة أم درمان الأهلية، وبعثرة حصائل المكتبات صفوة، إلا الإحاطة برأي الهامش السلبي، بل والعدائي لتاريخ هذا المركز ومدوناته.
فإثر شيوع خبر اقتحام “الدعم السريع” متحف السودان تناقلت الوسائط تعليقات لمناصرين له لم ترَ بأساً من ذلك الاقتحام. ومن ذلك عبارة لعبدالمنعم الربيع، الذائع أنه إسلامي تحول إلى “الدعم السريع”، قال فيها، “من قال لك إنه متحف قومي؟ بالنسبة إليَّ ما متحف قومي. كلو كذب ساكت. يعني كان اتكسر خليهو يتكسر، ما مشكلة. أصلو نحن قاعدين نعيد كتابة تاريخ السودان، ما محتاجين ليهو (له)، ما محتاجين ليهو. من قال المتحف دا قومي. لا يمثلنا. المتحف القاعد دا لا يمثلنا. ولا قاعد يعكس تاريخنا. وكلو كذب. وذاتو بالنسبة إليَّ هو جزء من تزوير تاريخ السودان. خليه يندك (يتدمر)”.
فمن الواضح أن اقتحام المتحف وسائر الدور التي ذكرناها لرموز الحركة الوطنية ومدوناتهم لم يكن اعتباطاً. فالربيع صريح في القول إن تاريخ هذه الصفوة “الإسلاموعربية” القابضة في الخرطوم سيذهب أدراج الرياح مع سلطانها عليهم.
وجاء الربيع بمصطلح “إعادة كتابة التاريخ” القديم فينا. وهي عن مطلبنا رد الاعتبار للذات في تملك ماضيها بأقلامها. فما إن استقل السودان حتى دعت دوائر وطنية كثيرة إلى إعادة كتابة تاريخنا الذي قلنا إن الاستعمار أساء إليه وشوهه، ثم ظهرت الدعوة بشدة خلال سنوات نظام الرئيس جعفر نميري (1969-1985) الأولى بدعوته إلى الاشتراكية، وقد رأى أن الإرث التاريخي المزور من جانب الاستعمار والحكومات والدوائر “الرجعية” التي انقلب عليها،. سيعوق دعوته تلك. وظلت الدعوة لإعادة كتابة التاريخ قائمة ولا ترى مع ذلك لها أثراً ملموساً في مدونة التاريخ عندنا.
وتقوم الدعوة لإعادة كتابة هذا التاريخ اليوم على منصة وطنية الهامش السوداني التي تريد الخلاص من استعمار المركز “الإسلاموعروبي”. فالسودان الراهن كما يراه الهامش خاضع لاستعمار داخلي لصفوة هذا المركز، التي تمكنت منه منذ الاستقلال. فمايزت بين السودانيين، فجعلت بعضهم مبنياً على المعلوم، وآخرين مبنيين على المجهول، أي منسيين في تاريخهم.
فالتاريخ المعروف للسودان، في قول آخر، غطى على سير الممالك التي سبقت هجرة العرب المسلمين للسودان في القرن التاسع الميلادي. وسأل عن هذا التغييب القسري لتاريخها بقوله، “فهل انشقت الأرض عن هذه الممالك وابتلعتها؟”. وزاد بأنه إذا لم تلغ نسخة تاريخ الصفوة الحاكمة تاريخ غيرها شوهته. وقال ثالث إن هذه الصفوة “الإسلاموعروبية”، متى درست تاريخ هذه الممالك، صورتهم طغاة بغية تكريه حتى أهلهم فيهم.
فجذر المسألة في محنة السودان، في قول آخر، أن تاريخ السودان حتى يومنا يدرس بانتقائية تلغي تاريخ من ليس من “الإسلاموعروبيين”. فغطى بالنتيجة على التنوع التاريخي. والتنوع التاريخي من أعمدة نظرية العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، للسودان الجديد. ويريد به أن نصطلح على أن للسودان إرث تاريخي تشكل منذ عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا، يملي علينا الاعتراف بمكوناته جمعاء بلا فرز. ومن هنا يرى يوسف عزت، المستشار السياسي لمحمد حمدان دقلو و”الدعم السريع”، أن الوقت قد أزف لصنع تاريخ جديد للسودان بواسطة قوى جديدة نشأت بمعزل عن الأحزاب الصفوية والبيوتات التقليدية التي لا ترى من السودان منذ الاستقلال سوى الخرطوم. ليس ما نقلناه عن غبن “الدعم السريع” قولاً وعملاً من تاريخ السودان المقروء مجرد أقوال. فهو ثقافة، بل صار مادة مرموقة في وثائق معتمدة للدولة مثل اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر 2020) الموقع بين الحكومة الانتقالية وبعض حركات دارفور المسلحة. فنص الاتفاق في الفصل الثالث منه على حق سكان منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق بالمشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات للغرض لتنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ مشارك، بموضوعية.
وجاء هذا الحق لمنطقة ما بالمشاركة في كتابة تاريخها خلافاً لأعراف الكتابة في بابه. فالتاريخ يكتبه المؤرخون من المنطقتين، أو من باقي السودان، بل وحق الكتابة فيه شامل للأجنبي المختص.
فالتاريخ يكتب ولا تعاد كتابته إلا بفرمان سلطوي. فكتابة التاريخ حالة لا تتجزأ إلى كتابته مرة وإعادة كتابته. فكتابة التاريخ لا تنقطع وتتجدد الكتابة لا برغبة نظام سياسي أو كيان سياسي آخر مثل المنطقتين اللتين وردتا في اتفاق جوبا، بل يكتب لفتح طرأت به مواد على أرشيفه لم تتوافر من قبل، كما تتجدد الكتابة فيه بظهور نظريات في التاريخ وغير التاريخ يريد بها المؤرخ إعادة النظر في ما تواضع العلم عليه.
ربما صح كل نقد أصوات الهامش التي عرضنا لها محتجة على بنائها للمجهول في تاريخ السودان كما قالوا، أو صح بعضه، ولكن يبرز السؤال هنا عن لماذا مثلاً تأخرت الحركات المسلحة عن كتابة تاريخ أقاليمها يداً بيد مع تحريرها؟ فهل استردفت أي من هذه الحركات معهداً للدراسات العلمية عن منطقة تحريرها، سواء بإنشائه أو بعون من أنشأه مستقلاً؟ لماذا رهنت إعادة كتابة تاريخها، لو صح المفهوم، بإحلال السلام الذي يأتي ولا يأتي في حين أنه كان متاحاً لها كتابته بواسطة طاقم من مؤرخيها حتى لمجرد تقوية عزائم المكافحين من أجلها بفوهة البندقية؟
لا أعرف إن احتاج شمول الهامش في مجرى التاريخ السوداني إلى فتح الخرطوم الجاري ليومنا لو سبقت صفوة الهامش إلى كتابة تاريخ إقليمها، طالما كان شاغلها، بالقلم قبل أن تتداركه بفوهة البندقية، بل لربما لو فعلت ذلك لما احتاج الهامش إلى غزو الخرطوم. فالسبل إلى الحق شتى.