أسئلةٌ جوهريةٌ لِتزكية الذاتِ السودانية
كتب: د. الوليد آدم مادبو
.
مرَّت الشعوب السودانية بمحنٍ كثيرةٍ كانت أخطرها المحنة الأخيرة، لأنّها ضربت الجهاز العصبي للدولة وعطَّلت إمكانية المجتمع للتعاطي الإيجابي من خلال التهجير المتعمَّد لفئات المعلمين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والصيارفة ورجال الأعمال، إلى آخره. وإذا كانت النهضة عموماً تتطلب وجود قيمة محورية تكون هي بمثابة المُحفِّز للتفاعل الأخلاقي والإنساني والدافع للنماء الحضاري والمادي فإن المفكرين السودانيين والفلاسفة وعلماء الاجتماع يلزمهم أن يتحاوروا فيما بينهم ويطرحوا أسئلةً علَّها ترشدهم إلى القيم الجوهرية التي تُعين الإنسان السوداني على النهضة وقد كبلته عِقال التخلف الاجتماعي وأزَّمَته منعرجات العقد النفسية قبل أن تدركه آفات العمل السياسي المُتدنِّي الذي أعجز القادة عن التصدي للأداء الاقتصادي المُتردي الذي طالما قنَّنته “العصابة الإنقاذية” واستمرأت فجواته النخب الانتهازية كافة.
هل كُنَّا محتاجين لهذه المحنة كي نعمل على تعديل مسارنا السياسي والأخلاقي؟. كيف انهزمنا وانكشفت عوراتنا عند أول منعطف؟. هل نستمريء حالة الانفصام الوجداني هذه ونمضي في ذات الطريق الملتوي؟. وفق أي وجهةٍ سيتم التعديل؟. كيف يتسنى لنا التعديل إذا لم نعرف العلل؟. هل هذه العلل طارئةٌ أم أنها متأصلةٌ فينا؟. ماذا نقصد بالأنا (عبارة “فينا”)، هل هنالك ذات جماعية؟. هل هنالك ممسكات أخلاقية وروحية للسودانيين؟. ما هي علاقة المدنية بالأخلاق وما هي علاقة الأخلاق بالتدين؟. كيف انبثق الوعي الأخلاقي المتميز لهذا الجيل – جيل الثورة – وقد تربى في ظل الإنقاذ التي تُمثل نقيضاً لكل ما هو أخلاقي وكل ما هو ديني؟. ما الذي فعلته الإنقاذ كي تضرب الأخلاق في مقتل ولماذا؟. هل تَحسَّب مُنظِّروها – خاصة الترابي – لهذا المآل؟. أيُّ مستقبلٍ لجماعته في سودان الغد وما الضمان أنَّ بذرة الحنظل هذه لن تثمر يوماً مسيخاً دجَّالاً آخرَ، سيما أننا لم ننقد الدولة المهدية نقداً حيويَّاً يُجَنْبُنَا تكرار التجربة الدينية الثيوقراطية تلك؟.
فيما كان الريف السوداني يعاني شظف العيش ويحترق بعضه الآخر بفعل البراميل المتفجرة، العقول المتحجرة والفتن القبلية المتدحرجة، كانت الخرطوم تعيش حالمة وادعة تُحرج مشاعر ساكنيها بين الفينةَ والأخرى أخبار أطفالٍ تمَّ اختطافهم أو قتلهم في بيروت أو غزة “عاصمة المقاومة العربية”!. لم تجد شعوب الهامش ملجأً من الحروب غير العاصمة التي سكنوا في أطرافها التي خلت من كافة الخدمات وانعدمت فيها سبل العيش الكريم إلّا من نهارٍ يقضونه في تقديم خدمات شتى لساكني الخرطوم بامتداداتها الجديدة. بما أن الدولة لا تملك أفقاً للتخطيط ولا تعرف سبلاً للتنمية المستدامة فقد تراكم الغبن الاجتماعي، ازداد الحقد الطبقي، واتسعت الهوة الاقتصادية حتى استحال الشعب إلى طبقة تملك كل شيء وطبقة لا تملك أي شيء. جاءت الحرب لتستثير هذه المشاعر الملتهبة وتدغدغ تلكم العواطف السالبة، حتى صار من السهل توجيهها ضد شريحة اجتماعية عمَّرت مساكنها وشيَّدت قراها (أحياءها المختلفة) بالجهد المهني، التحصيل العلمي، والتراكم المعرفي. أمَّا من أجادوا سرقة البنوك، استغلوا الموارد، وتفننوا في “بلع الذمم” فقد كانت أربعة سنين كافية لتهريب أموالهم والنجاة بأنفسهم من المحرقة. لا غرو، فقد كشفت الحرب سوءات المجتمع والدولة فبتنا جميعاً عُراة أمام أنفسنا، أهالينا، والمجتمع الإنساني قاطبة.
لم تتعرض مدينة في العصر الحديث لمثل ما تعرضت له الخرطوم، بمعنى أنَّه لم يحدث أن غزت قوة عسكرية مدينة (مثل دمشق، بغداد، صنعاء، بنغازي، بيروت، أنجمينا، جوبا، إلى آخره) وسعت لإخراج المواطنين من بُيوتهم عُنوةً. فقد جعلت الشرائع الوضعية والدينية للبُيوت حرمةً تماثل في قدسيتها حرمة المسجد الحرام، لحد قول النبي “صلى الله عليه وسلم” يوم الفتح الأكبر: (من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ذلك أنَّه سيد القوم والمنوط به حمايتهم. لا يدري المواطنون ما الذي حدث؟. هل اضطرت قوات الدعم السريع لدخول البُيوت بعد أن تعرضت للقصف الجوي أم أنّها خطَّطَت لعقد صفقةِ نهبٍ مع الشرائح المُستضعفة من أطراف المدينة. الراجح في نظري هو القول اللاحق، فقد اقتحم فصيلٌ من هذه القوات البُيوت واستحوذ على المقتنيات القيمة مثل الذهب والمال تاركاً الأبواب على مصراعيها للعصابات كي تسرق الأثاث والملابس والمعدات، المراوح، المكيفات، الأدوات الصحية والآليات الإلكترونية والموبايلات، بتأني بعد أن تكفل أفراد الدعم السريع بحمايتهم.
تمددت هذه القوات في بيوت المواطنين واستعانت بالشرائح الضعيفة التي تطوعت لخدمتهم، منهم الطبَّاخة والقوَّادة، وبائعة العرقي، وسمسار البنزين والجازولين الذي يروجه لهم بسعر السوق الأسود، والغفير الذي يدلهم على البيوت التي هجرها أصحابها، والميكانيكي الذي يعينهم على سرقة السيارات وحملها على الرافعات الثقيلة.لا أدري إن كان هذا تحالف طبقي بين شرائح المهمشين، أم إنّه تحالف إثني بين “الغرابة” والجنوبيين، كما يريد البعض التوهم كي يعفي نفسه من مهمة التفكير في القضايا الصعبة والملحة. ما أن اطمأنَّت هذه المجموعات لتسيّب القوات الشرطية وتقاعسها عن أداء مهامها حتى اعتزمت تقاسم العاصمة المثلثة لمناطق نفوذ نهبوي لا يسمح بتغول فصيل على “حقوق الآخر” أو تجاوز سلطته دون إذن أو اتفاق مسبق. بهكذا أسلوب تحوَّلت العاصمة إلى كانتونات تخضع لنفوذ المليشيات بعد أن استحال الوطن إلى مقاطعات تخضع لنفوذ الأقليات النفعوية، فالبترول من نصيب الحركة الإسلامية والذهب من نصيب الدعم السريع واليورانيوم من نصيب الحركة الشعبية شمال، وهلم جرا.
لقد عزَّزَت الحرب من ظهور الازدواجية في الشخصية السودانية، تدَنِّي الحس الإنساني، المتاجرة بالمحنة، الانتهازية، الاتكالية، عدم المسئولية، اللامبالاة، النرجسية، الالتواء الأخلاقي، الانحراف السلوكي، الانفصام الوجداني، إلى غيرها من الخصال التي مكَّنت لها الإنقاذ من خلال التجريف المعرفي، التضليل الإعلامي، التدليس والخطاب الديني المتخلف، الفساد المالي والإداري، اضمحلال قيم الشفافية والمحاسبية وغياب تام لنظم الحكامة والمؤسسية. الأخطر من كل ذلك استهداف الطبقة الوسطى من أول يوم بتوجيه من “الشيخ” (رحمه الله) بغرض إضعاف المجتمع السياسي المدني وحرمانه من فرصة التصدي للنظام الشمولي، الأمر الذي تسبب في انعدام شريحة اقتصادية مهمَّة كانت تمثل العمود الفقري للثقافة، الآداب والأخلاق في المجتمع.
إنّ جهداً شيطانياً مثل هذا كفيلٌ بإضعاف الممسكات الأخلاقية والروحية لكثير من الشعوب، بيد أننا رأينا ما تعرض له السوريون، مثلاً، ومع ذلك فقد رجع من رجع من مهجره بعد عشرات السنين دون أن يفتقد معطفاً من خزانة ملابسه، دعك من أن تسرق سيارته أو تكسر خزنته. هنالك إشكال قِيَمي يجب معالجته بعيداً عن المباهاة والتفاخر كل مرة بأننا أكثر الشعوب أمانةً وشجاعةً، فالأمين لا يدخل بُيوت الناس ولا يغشى حرماتهم، والشجاع لا يهدد الغلابة والمستضعفين ولا يقتل فلذات أكبادهم. كان الإنسان السوداني متسقاً مع ذاته حتى زمن قريب قبل أن تعتري ثقافته عوامل التعرية والتغريب ويستحيل إلى كائنٍ تستخفه حيل الإفك والتمكين. السؤال: كيف انبثق الوعي الأخلاقي لهذا الجيل وقد تربى في ظل الانقاذ؟. الإجابة على هذا السؤال عصيَّة لكن يمكن اختصارها في قول مأثور للدكتور عبدالله بولا (رحمه الله): “العقرب بتلد سِمَّها”.
لقد أذاقت الإنقاذ هذا الجيل الويلات (ويلات الحروب، البطش السياسي الذي شمل منع العمل النقابي والحزبي، الكبت الجنسي الذي هو نتاج طبيعي لغياب المحفزات الفكرية والروحية، العطالة، المخدرات، التعليم البائس، الثقافة المهترئة، فرص الاستثمار المنعدمة إلا لأصحاب الحظوة، مناخات النفاق المتمددة في كل ركن من أركان “المدينة الآثمة”، إلى آخره)، فانتفض غيرَ آبهٍ بالعواقب وغيرَ مكترثٍ للعقبات، تعينه في ذلك الثورة المعلوماتية والرقمية التي جعلت من الكون قرية نموذجية تماثلت فيها مظاهر الحياة المادية وإن اختلفت عليها طبيعة الأنظمة السياسية. يقول دكتور وجدي كامل في إطار تعريفه للفرق بين الفعل الثوري والوعي الثوري “أنَّ معركة الفرد في العالم المعاصر صارت تعتمد إلى درجة كبيرة في النزوع لبناء استقلاليته عن طريق إطلاق حرية التفكير وعلمية النتائج المستخلصة بالاستعانة برسائل ووسائل التعليم التطبيقي الجديد وتكثيف المساءلة للموروث، والمسلمات، وتنقيتها من سلطة الأسطورة، والخيال الشعبي الضار في كثير من التجارب المعاصرة” (مداخلة في الواتس آب).
ختاماً، إن إصلاح الدولة والمجتمع لا يكون مكتملاً إلا إذا اتبعنا نهجاً قاعدياً (bottom-up) وأمعنَّا النظر من علِ (top-down trickle approach) غير متناسين لضرورة التبادلية (reciprocity) في تحقيق النهج الإصلاحي القومي. إنَّ المشروع التنموي “للجمهورية الثانية” (كما أسماها الأستاذ محمد سليمان الفكي الشاذلي) يجب أن يبدأ بتمحيص الذات والمساءلة للموروث الذي يحتوي على محفزات حيوية، كما يتضمن بِضاعة مُزجاة قد تسببت في كثيرٍ من خيباتنا وبددت سعرات لا بأس بها من طاقتنا. للإطلاع على نظرات نقدية لموروثنا السياسي والديني، لا بد من الوقوف على تجربة الشهيد محمود محمد طه وتجربة الشهيد عبدالخالق محجوب، كتابات الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد والأستاذ المحبوب عبدالسلام، كما لا بد من الوقوف على الإرث الصوفي العظيم الذي سطَّره – فيما لا يقل عن ٨٢ مجلداً – “راجل طابت” الأستاذ عبدالمحمود ود نور الدائم ود سيدي أحمد الطيب ود البشير، ورجالٌ آخرون لم يدَّخروا جهداً في ترقية العباد وخدمة البلاد.