لا وطن للطيور التي تعشق الحرية: هذا كل ما في المسألة

0 120

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

قال الدبلوماسي الفرنسي المرموق “ج جيوهنو” في تغريدة أخيرة إن ما يجري في روسيا والسودان هو نتيجة منطقية لنهاية السياسة كما عرفناها، ومفهومها ليس غريباً على تحليل كساد السياسة في السودان، فجاء المفهوم إلى ميدان تحليل أوضاع السودان في صورتين، الأولى تتمثل في نسخة الأكاديمي الأميركي البارز أواخر القرن الماضي صموئيل هنتنغتون، أما الثانية فجاءت في صورة مفهوم الإرهاق السياسي على يد المختص بالشأن السوداني في العقد الثاني من القرن الحالي “إلكس دي وال”.
انطبق مفهوم نهاية السياسة على نطاح الصفوة الطويل الذي خلا من الإرادة للخروج من قبائليتهم الجاحدة لاجتراح مساومة صلح وطني تاريخي لا خلاف بينهم على أن فيه شفاء الأمة، فأعظم عهود دولة الإنقاذ وهو اتفاق السلام الشامل (نيفاشا 2005) كان ذراً للرماد في العيون، فواصلت أطرافه، الحكومة والحركة الشعبية، سياساتها القديمة ذاتها راضية متراضية كأن عهدها في نيفاشا لم يكن. من جهة أخرى، انتهت حكومة الإنقاذ بالحوار الوطني للمصالحة الوطنية، المعروف بحوار الوثبة في يناير (كانون الثاني) 2014 إلى “تجنيد” حلفاء من المعارضين من بين من لبوا الدعوة بمثابة تجهيز لإعادة انتخاب الرئيس المخلوع عمر البشير لفترة رئاسية أخرى خلافية في عام 2020 لم تحدث.
وبلغ بالصفوة السياسية هوان هذه الإرادة حيال لم شمل الأمة حداً اتفق لهم هم أنفسهم وصفه بـ “توازن الضعف” بين الحكومة ومعارضتها، وتنشأ حالة نهاية السياسة من ضمور ساحة الممارسة السياسية وتدهورها إلى وضع شبيه بعراك عقارب مسدودة في زجاجة، وصراع هذا الدود الملغوم بالشك قريب من وصف هنتنغتون لنهاية السياسة في العالم الثالث بأنها الوضع الذي تجبه فيه القوى الاجتماعية واحدها الآخر كما ولدتها أمهاتها عارية من السياسة التي قال عنها أنطونيو غرامشي إنها “تهذب الأطماع”، حيث وصف هنتنغتون هذه القوى العارية العائرة بأنها بلا قادة عركتهم السياسة، وانعقدت لهم شرعية التوسط لتلطيف النزاعات.
نزاع نهاية السياسة لا يكاد ينتهي لأنه ليس بين القوى المتصارعة اتفاقات أو مواثيق تهدي إلى السبل الشرعية والسلطانية لفض العنف، فالسياسة تنتهي عندما يبدأ العنف، أما الموت من أجل السياسة يعنى في جوهر المسألة مقتلها.
وتجد أن “دي وال” وصل بطرقه الخاصة إلى إنهاك صفوة النادي السياسي في كلمة نشرها عام 2009، إذ سمع من أحد قادة المجتمع المدني بالفاشر قوله “نحن تعبانين، واستكفينا مما بنا، فقادة المجتمع السوداني المدني والسياسيون مرهقون بغير لبس”، وأضاف “دي وال” أن الرئيس عمر البشير عليه سيماء الإرهاق وقادة المعارضة شاخوا وحتى طاقة السيد الصادق المهدي الأسطورية تتبخر، بينما بقي خليل إبراهيم وحده في دارفور على شيء من الحيوية والديناميكية ولكن طاقته تصب في خانة الدمار الثوري بدلاً عن بناء البدائل.
وقال “دي وال” إن رئيس جيش تحرير السودان، عبد الواحد محمد نور أعطى معنى مبتكراً لـ “الثورية المغيظة” من فرط غيابه عن أي تفاوض ذي مغزى، أما جنوب السودان، الذي على مرمى حجر من الاستقلال، تجده قد خلا من كل الشغف الذي يتوقعه المرء في بلد بالعد التنازلي ليوم تحرره الوطني.
وخلت الساحة السياسية في قول “دي وال” من أي فكرة جديدة ملهمة، فقد جرب السودان كل الأفكار الكبيرة القديمة يميناً ويساراً وهامشاً فتهاوت، وسدت خرائبها الطريق نحو أفكار ملهمة جديدة، فالصفوة السياسية مساقة من أذنها بالحادثات التي لا تملك لها دفعاً، فلا الحكومة ترى الضوء في نهاية النفق ولا المعارضة، أما المؤتمر الوطني فلا يفعل بزمام السلطة التي بيده غير العض بالنواجذ عليها، واستسلمت أحزاب المعارضة للوضع الراهن، إذ تدعو للتحول الديمقراطي والتغيير بغير حمية وبقناعة أقل مما كان في الماضي.
لا نعرف مثلاً في خلو السياسة من الأفكار الكبيرة بعد تهاويها يمنة ويسرى، في قول “دي وال” أبلغ من مصارع هذه الأفكار جميعاً في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري (1969-1985)، فقد بدأ اشتراكياً ذا زبد ماركسي حتى أنه احتفل في يومه بالعيد المئوي لفلادمير إيلتش لينين، ثم اصطرع مع الشيوعيين فانقبلوا عليه في 1971 ليشتت شمل مشروعهم إلى يوم الناس هذا، ثم استصحب القوميين العرب لفترة قصيرة ليتركهم إلى حلف مع التكنوقراط في 1973 من أصحاب السابقة في تنظيمات المستقلين بحركة الطلبة السياسية. فمكنوا له بدستور حداثي في 1973 على رأس نظام جمهوري رئاسي بحزب واحد أمم له الصحف، وجعل قادة الدولة حتى في الجيش والقضاء أعضاء في لجانه القيادية، ودجن النقابات بتحويلها لخلايا إنتاج لا رعاية لمصالح أعضائها.
سرعان ما تخلص نميري من أفصح التكنوقراطيين بليل في أول منعطف عام 1975 سماه منصور خالد “ليلة الخناجر الطويلة”، وتعاقد مع القوميين الجنوبيين على اتفاقية أديس أبابا في 1972 ومنحهم الحكم الذاتي الإقليمي لينقلب عليهم من جانب واحد في منعطف آخر خلال 1983 ليخذي صفوتهم في نظر شعبها.
ما جاء عام 1977 حتى تعاقد مع الجبهة الوطنية المعارضة المكونة من حزب الأمة والإخوان المسلمين، ولم يدم حلفه مع الحزب، واحتفظ بالإخوان ليتبني مشروع أسلمة الدولة في 1983 من وراء ظهرهم فيخلي يدهم منه حتى يأتوه تابعين لا مبادرين، فأنظر إلى مصارع هذه الأفكار التي ألهمت أجيالاً من السودانيين لعقود على يد نميري خلال 17 عاماً منها الماركسية والقومية العربية والاعتراف بالمواطنة والتنوع والحكم الذاتي لآخر الأمة، وكذلك أسلمة الدولة.
البادي أن ما نراه من نهاية للسياسة في السودان ليس بالفعل نهاية لها وإلا احتجنا إلى تفسير لتواتر ثورات مدنية ثلاث (1964، 1985، 2018) في سبيل الديمقراطية انعقد لها النصر خلال سبعة عقود منذ الاستقلال عام 1956، وربما يدفع السودان بالحرب الناشبة هذه لا ثمن نهاية السياسة في ممارسة الصفوة المسلحة وغير المسلحة، بل والإيذان بها في الحركة الشعبية المدنية، وقد يصدق هنا قول نزار قباني:
يا وطني كل العصافير لها منازل
إلا العصافير التي تعشق الحرية
فهي تموت خارج الأوطان
فبدا من سيرة الثورة للتغيير فينا أن طلب الحرية جبلة سودانية، ولن تجد تمييزاً لهذه الثقافة السياسية المستميتة عند الحرية في حسابات المساعي التي تنعقد هذه الأيام لإحلال السلام في الحرب القائمة سوى عند مثل شاراس سريفاسان “فورين بوليسي 25 يونيو (حزيران) الماضي”، إذ قال إن صيغة إحلال السلام بين المتنازعين في الفقه الدولي أنيقة لحد الإملال، فتسعى المساعي لوقف النار ومحاصرة العنف، ثم ترتب لتقاسم السلطة بين طرفي النزاع، ثم تجدول لإصلاح (اقتصادي وأمني ودستوري) مؤسسي، ويأتي اللاعبون المدنيون بآخرة للانتخابات.
ومن رأيه أن هذه الصيغة تكافئ مرتكبي العنف على عنفهم، ولا تثمن السياسة المدنية حق تثمينها، وقال إنها صيغة مجربة فاشلة لأن خصمي الحرب اكتسبا مهارة الخضوع لكل مفرداتها ليخرجا منها خروج الشعرة من العجين.
وطلب سريفسان ألا تنعقد صناعة سلام في السودان بغير استصحاب قوى المقاومة المدنية فيه وأن تتنزل للمقاومين المدنيين في حساباتها، فكان هؤلاء المقاومون، في قوله، من أنقذ السودان حين فشل كل أحد آخر، وكانوا طوق النجاة لبلدهم عند نهاية سياسات الصفوة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.