الاسطوانات المشروخة: شراكة قحت مع العسكر واشعال الحرب
كتبت: رشا عوض
.
المثقف النافع للكيزان عندما يتحدث عن الحرب يجتهد في التستر على المجرم الحقيقي الذي ارتكب هذه الجريمة ويتحمل المسؤولية المباشرة عنها تخطيطا وتحريضا وتنفيذا، ويبذل قصارى جهده في ” تشتيت الكورة” وتفريق “دم المسؤولية” بين الأسباب الثانوية والوهمية! على طريقة عرب الجاهلية في تفريق دم القتيل بين عدد كبير من القبائل لتصعيب وتعقيد مهمة اخذ الثأر!
في طاحونة هذه الحرب يتحاشى المثقف النافع الحديث عن الكيزان ومركزهم الأمني العسكري الموحد خلف عقيدة حكم السودان بالقوة اما بانقلاب عسكري او حرب أهلية ، وهم يملكون ادوات التنفيذ كاملة غير منقوصة: سيطرة على قيادة ومفاصل الجيش، مليشيات مسلحة منخرطة الان في القتال عمليا ، وأجهزة أمنية واستخباراتية ودعم اقليمي بالاضافة لسيطرتهم على الدولة واختراقهم الممنهج للمجتمع واداراته الأهلية وقواه السياسية! وقبل كل ذلك ارادة لخوض الحرب افصحوا عنها بوضوح لا لبس فيه على لسان قياداتهم في افطارات رمضانية موثقة بالصوت والصورة!
يتحاشى ” المثقف النافع” هذه المعلومات الصلبة ويمضغ بمثابرة عجيبة ومريبة لبانة قحت فيردح قحت قحت قحت قحت وبعضهم لا يكتفي بقحت بل يضع بين قوسين ” المجلس المركزي” في تماهي عجيب مع خطاب الكيزان!!! وكل ذلك في محاولة بهلوانية للتستر على المجرم الحقيقي وتخليصه من عبء الجريمة والصاقها بآخرين او التخفيف عنه بايجاد شريك يقاسمه المسؤولية، وكل ذلك بحيثيات مضحكة من فرط سذاجتها وذهولها عن حقائق الواقع، مثلا الزعم بأن قحت تسببت في الحرب لأنها قبلت الشراكة مع العسكر وهذه الشراكة نتيجتها الحتمية هي الحرب! منطقيا حتى لو سلمنا بفرضية ان الحرب حتمية، مؤكد ان سبب حتميتها ليس هو خيار الشراكة مع العسكر، لأن منطق الشراكة في إدارة الانتقال هو التخلص التدريجي من تركة النظام الذي اطاحت به الثورة عبر الاصلاحات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، العسكر لم يحتملوا الشراكة وانقلبوا عليها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، وعندما فشل الانقلاب تماما بفعل المقاومة الشعبية، وبسبب الخلاف العسكري العسكري لان البرهان تحالف مع الكيزان وأعاد عناصرهم الانقلابية إلى الجيش الامن ومفاصل الدولة الأمر الذي جعل حميدتي يقفز من مركب الانقلاب لشعوره بالخطر على موقعه ويراهن على الاتفاق الاطاري، حزم الكيزان أمرهم على الحرب ، لأن خطتهم كانت الحكم من وراء انقلاب البرهان وصولا إلى انتخابات مبكرة مزيفة تشرف عليها حكومة اردولية تعيدهم إلى السلطة ومن ثم طي صفحة التغيير نهائيا حتى في الحدود الإصلاحية التي يسمح بها توازن القوى المائل لصالح العسكر، حتى هذه الحدود الإصلاحية يرفضها الكيزان لان مركزهم الأمني العسكري غير مستعد لترك اي نافذة مفتوحة على أهداف ثورة ديسمبر حتى لو كانت نافذة صغيرة كالاتفاق الاطاري الذي كان – رغم كل عيوبه ونواقصه – محاولة لتفادي الحرب ، نعم المحاولة فشلت، ولكن حتمية الحرب لا علاقة لها بقحت ولا الاتفاق الاطاري، بل المسؤول عن هذه الحتمية هو المركز الأمني العسكري الكيزاني الذي يريد أن يحكم بالقوة ، وطموحات البرهان في الحكم العسكري مستخدما نفس لعبة البشير اي تخويف كيزان الجيش من الانقلاب عليه بفزاعة الدعم السريع وتخويف الدعم السريع بكيزان الجيش لتكون النتيجة ان يستمر هو كحاكم اوحد حاضنته السياسية الكيزان، ووطموحات قائد الدعم السريع في حكم السودان وهي طموحات لم تخلقها له قحت من العدم بل هي طموحات مسنودة بقوته العسكرية وامبراطوريته الاقتصادية وارتباطاته الاقليمية والدولية، ومؤكد ان من اوصل حميدتي إلى مجده المليشياوي هم الكيزان وليس قحت، وتأسيسا على ذلك فإن حتمية الحرب مرتبطة بمثلث برمودة السياسي ممثلا في المركز الأمني العسكري الكيزاني، ومليشيا الدعم السريع وهي في الأساس صنيعة الكيزان وليست صنيعة قحت، والبرهان ومشروعه المدعوم من مصر وهو تكريس دكتاتورية عسكرية تقليدية، هذا المثلث الانقلابي هو الذي جعل الحرب حتمية وقحت لم تصنع ايا من اضلاعه، بل وجدت ضلعين من هذا المثلث أمامها غداة الثورة كامر واقع(الجيش والدعم السريع) وتفاوضت معهما تفاوضا قاد إلى شراكة ووثيقة دستورية حينما تم التوقيع عليها خرجت حشود شعبية ضخمة إلى الشوارع قوامها الشباب الثوري احتفالا بها ومباركة لها لتفادي الحرب، فلم تكن تلك الشراكة خيانة عظمى كما يصورها البعض، ومن يقولون ان الشراكة مع العسكر هي المسؤولة عن إشعال الحرب لم يكملوا اطروحتهم العبقرية ويشرحوا لنا كيف كان بإمكان قحت منع اندلاع الحرب لو تبنت موقفا جذريا من العسكر؟ عمليا كيف كان يمكن أن تستطيع قوى مدنية لا تمتلك ذراعا مسلحا ان تجبر الجيش ومن ورائه المركز الأمني العسكري الكيزاني، والدعم السريع ومن ورائه سنده الاقليمي والدولي وقوته الضاربة على الأرض على مغادرة المسرح السياسي فورا بدون عملية سياسية ومفاوضات وتنازلات ومساومات؟ أقصى ما تستطيعه قوى مدنية ادواتها هي الوسائل السلمية إزاء قوى عسكرية مسيطرة على البلاد هو العمل على التخلص التدريجي من هذه السيطرة في سياق عملية سياسية توظف كروت الضغط الداخلية والتحالفات الخارجية الذكية لتحرير الحياة السياسية من قبضة العسكر على مراحل، اما انتزاع السلطة من العسكر على طريقة التغيير الجذري وايداع القيادات العسكرية السجون فيحتاج لقوة عسكرية ثورية ضاربة تهزم العسكر في الميدان وتقيم البديل المدني، هذه هي النهاية المنطقية لفكرة التغيير الجذري في السياق السوداني، اما افتراض ان اختفاء الجيش من الساحة السياسية يتحقق بمجرد ترديد الهتاف العسكر للثكنات وان قوات الدعم السريع سوف تتبخر في الجو او تنخسف بها الأرض فتختفي من الوجود نهائيا لمجرد أننا هتفنا الجنجويد ينحل فهذه رغائبية طفولية، إزاحة العسكر والجنجويد من السياسة بصورة حاسمة ورادكالية يحتاج لذراع عسكري أقوى منهما بما يكفي لاستئصالهما ، في حالة غياب هذا الذراع والاعتماد على الوسائل السلمية فإن تحقيق شعار العسكر للثكنات والجنجويد ينحل ترجمته المنطقية عملية سياسية جادة وصبورة ومثابرة تضع في اجندتها الإصلاح الأمني والعسكري وخطة واقعية للدمج والتسريح في سياق خارطة طريق وطنية للجيش المهني الواحد، وهنا تسقط سردية ان منهج الشراكة والحل السياسي تسبب في الحرب لأن بديل الشراكة لو كان التغيير الجذري فإن ذلك كان سيعجل بالحرب ، بدلا من ان تقع الحرب بين الجيش بقيادة الكيزان والدعم السريع عام ٢٠٢٣ كانت الحرب سوف تندلع بين جيش التغيير الجذري من جهة والجيش والدعم السريع من الجهة الأخرى منذ عام ٢٠١٩ ! واصلا من ينادون بالتغيير الجذري لا يملكون جيشا ولا تحالفا سياسيا منظما، ولسان حال بعضهم يقول ان الأداة الوحيدة الفعالة للتغيير الجذري هي تصويب اللعنات للحرية وتخوينها! في حين ان الأداة الفعالة المطلوبة لأي تغيير جذري او إصلاحي، شامل او جزئي في سودان ما بعد الإنقاذ بكوارثه وتعقيداته غير المسبوقة هي الاصطفاف المدني الديمقراطي القوي الذي تسوده روح الاحتفاء بالتنوع وثقافة العمل المشترك والقدرة على التمييز بين الاختلاف الاستراتيجي والاختلافات الثانوية.
من كان كارها للحرب فعلا يجب أن يصوب مدفعيته الثقيلة تجاه صناعها الحقيقيين بدلا من التواطؤ المفضوح معهم بترديد سردياتهم المضللة مثل اكذوبة ان قحت مسؤولة عن إشعال الحرب.
ان ارشيفي المكتوب والمسموع والمرئي يشهد بنقدي الصارم لقوى الحرية والتغيير في كل اخطائها الاستراتيجية، وفي عيوبها الهيكلية التي تسببت في ضعف الأداء في الفترة الانتقالية، ولكن قحت بريئة من إشعال هذه الحرب كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، واي محاولة لتلطيخ قميصها بدماء هذه الحرب هي من وجهة نظري شهادة زور ومساعدة للمجرم الحقيقي على الافلات من المساءلة السياسية والاخلاقية عن جرجرة البلاد إلى هذه الحرب اللعينة.