السودان حيث الانقلابات إدمان
كتب: جعفر عباس
.
يتباهى السودانيون لكونهم نجحوا، منذ استقلال بلادهم في مطلع عام 1956، في إسقاط ثلاث ديكتاتوريات عسكرية عبر النضال السلمي، وبإشهار سلاح العصيان المدني، ولكنهم يصبحون أكثر تواضعا عندما يتذكرون أنهم رزحوا لـ 54 سنة تحت الحكم العسكري من مجموع 67 سنة ظلت بلادهم خلالها تنعم بالاستقلال، فقد حكم الفريق إبراهيم عبود وصحبه السودان منذ عام 1958 إلى عام 1964، حيث جاءت حكومة مدنية منتخبة هشة العود، سرعان ما سقطت تحت سنابك الدبابات التي حركها جعفر نميري وصحبه في عام 1969 وقبضوا على زمام الحكم حتى عام 1985، حيث قامت حكومة منتخبة لا تقل هشاشة عن سابقاتها، ولم يكن إسقاطها عسيرا على مجموعة عمر البشير العسكرية، التي حكمت لثلاثين سنة، وسقطت في نيسان (أبريل) من عام 2019، ليأتي بعدها نظام حكم هجين: مدني في شقه التنفيذي وعسكري في غالب شقه السيادي، ثم سار عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني الحالي على درب أسلافه من العسكر عشاق السلطة، وانقلب على الشق المدني، لينفرد هو وصحبه الجنرالات بالحكم، ويئن السودان حاليا من وجع الصراع المسلح على السلطة، وقليل الثروة المتاح بين البرهان وحليفه السابق محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ورغم أن السودان ـ بدون فخر ـ في طليعة الدول المنتجة للانقلابات العسكرية، إلا أنه لم يشهد ممارسات دموية ممعنة في البشاعة كتلك التي يشهدها في الحرب الدائرة حاليا في عاصمته وأطرافه، فبعد عام واحد من الاستقلال، أي في عام 1957 قاد الضابطان الشقيقان عبد الرحمن ويعقوب كبيدة بمحاولة انقلابية ضد الحكومة المنتخبة، ولكن تم إجهاضها في مهدها ولم تسل دماء خلال المحاولة أو لمعاقبة مرتكبيها، ثم وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1958 قام رئيس الوزراء “المنتخب” عبد الله خليل (وهو ضابط متقاعد)، بتسليم الحكم الى الفريق إبراهيم عبود وصحبه لمنع خصومه من الإطاحة به، وكان اتفاقه مع عبود يقضي بإجراء انتخابات بعد ستة أشهر، ولكن العسكر استمرأوا البقاء في قصر الحكم، حيث مكثوا فيه ست سنوات، حتى أطاحت بهم انتفاضة شعبية في تشرين أول (أكتوبر) من عام 1964، بعد ان فشلت ثلاث محاولات عسكرية في الإطاحة بهم خلال سنوات حكمهم.
وطوال السنوات الخمس التي أعقبت زوال الحكم العسكري مارست الأحزاب الكبيرة مؤتلفة ومختلفة ما يمكن وصفه بـ “العك”، الذي هو الفعل غير المنضبط، ففتح ذلك شهية ضباط يساريين للانقلاب عليها في أيار/ مايو من عام 1969، وجاءت عصبة جعفر نميري الى الحكم، ثم وفي تموز يوليو من عام 1971 انقلب الضباط الشيوعيون على جعفر نميري، واستولوا على السلطة ليومين وبعض اليوم، حيث إن العسكر المناصرين لنميري تمكنوا من دحرهم، وأعقب ذلك محاكمات ميدانية انتهت بإعدام قرابة العشرين من العسكريين والمدنيين الشيوعيين.
ثم شهد عام 1973 تمردا عسكريا محدودا ضد حكومة جعفر نميري، تم احتواءه في مهده دون خسائر في الأرواح قَبْلية او بَعْدية، ومن عجب ان مجموعة الضباط وصف الضباط الذين تحركوا ضد الانقلاب الشيوعي ومكنوا نميري من العودة الى الحكم، تحركوا في أيلول/ سبتمبر من عام 1975 بقيادة المقدم حسن حسين، للإطاحة به، وتم دحر الانقلاب خلال ساعات، وإعدام من شاركوا فيه بالجملة.
سقطت حكومة البشير في 2019، إثر ثورة شعبية عمت جميع أنحاء السودان، ولكن كان للعسكر دور حاسم في إسقاطها، فقد أعلنت اللجنة الأمنية العسكرية التي كان مناطا بها حماية نظام البشير الانحياز للثورة، ونصب نائب البشير الفريق عوض ابن عوف رئيسا لمجلس عسكري يتولى إدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية، يعقبها إجراء انتخابات.وفي اليوم الثاني من تموز/ يوليو من عام 1976، فوجئ سكان العاصمة السودانية بالرصاص يلعلع في معظم الطرقات، وما حدث هو ان قوات الجبهة الوطنية، وهي تحالف معارض لحكم نميري كان يتألف من حزب الامة والحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية، والتي كانت عناصرها المقاتلة قد تلقت تدريبات عسكرية في ليبيا وإثيوبيا، اجتاحت المدينة وهي ترتدي الأزياء المدنية، وسهل على نميري من ثم دمغها بالارتزاق، ووصف العملية بالغزو “الأجنبي”، وتمكنت القوات الموالية له من سحق المحاولة، ونصب المشانق لكبار قادتها وعلى رأسهم العميد محمد نور سعد.
وفي نيسان/ أبريل من عام 1985 أرغمت انتفاضة شعبية كاسحة قيادة الجيش السوداني، وعلى رأسها وزير الدفاع في حكومة نميري الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، على الانحياز للانتفاضة وعزل نميري، وبعدها بسنة واحدة جاءت حكومات منتخبة مخلخلة الأوصال بسبب كيد الأحزاب لبعضها البعض، ولم يكن عسيرا على العسكريين الإسلاميين الوصول الى الحكم بانقلاب عسكري في حزيران/ يونيو من عام 1989، ودامت سلطتهم برئاسة عمر البشير حتى نيسان/ ابريل من عام 2019، وكانت أخطر محاولة انقلابية كادت ان تطيح بهم في عام 1990، قادها اللواء عبد القادر الكدرو، وانتهت بإعدام 28 ضابطا، وكانت هناك مساع انقلابية أربعة اجهضتها حكومة البشير، وهي في أطوارها الجَنِينيَّة.
سقطت حكومة البشير في 2019، إثر ثورة شعبية عمت جميع أنحاء السودان، ولكن كان للعسكر دور حاسم في إسقاطها، فقد أعلنت اللجنة الأمنية العسكرية التي كان مناطا بها حماية نظام البشير الانحياز للثورة، ونصب نائب البشير الفريق عوض بن عوف رئيسا لمجلس عسكري يتولى إدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية، يعقبها إجراء انتخابات.
وفي وجه الرفض الشعبي لذلك المجلس، انقلب عبد الفتاح البرهان المفتش العام للجيش على ابن عوف، ونصب نفسه رئيسا للمجلس العسكري ثم وبعد اتفاق مع القوى المدنية، صار رئيسا لمجلس السيادة مع ترك الحكومة التنفيذية في أيدي المدنيين، ولكن شهوة السلطة جعلته ينقلب على حكومة هو “رأسها” في تشرين أول/ أكتوبر من 2021، بالتحالف مع حميدتي، وها هما، وسَيْراً على تقاليد المؤسسة العسكرية السودانية، ينقلبان اليوم على بعضهما البعض، ليتحاربا فوق رؤوس المواطنين.