تشريقة الدرديري محمد أحمد: ليست مجرد مؤامرة
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
من رأي كثير من صفوة السودان أن القوات المسلحة بدت في حربها القائمة اليوم مع الدعم السريع كمن لم يستعد لمثلها في الميدان. ولا يبدو أن هذه الصفوة نفسها، التي وصفت الحرب بأنها غزو قوامه عرب الساحل الأفريقي، قد استعدت لها في جهة اختصاصها وهي الفكر. فبدا وكأنها قد فوجئت بالحرب أيضاً في حين كانت أسبابها تتخمر عند حدودنا الغربية على مدى عقود ناهيك بتلظي دارفور بلهبها منذ أوائل القرن الحالي.
لم نكترث لهذا الوفود العربي من الساحل الأفريقي سوى بالاحتجاج على أجنبيته وتطفله على السودان. وهكذا تمردنا، لو صحت الكلمة، على التفكر في الأسباب العميقة التي أطلقت قوى عرب الساحل الأفارقة من عقالها لتغزو السودان كما يقولون.
وبدا أننا أفقنا، بعد فوات الأوان، ربما لهذا النقص المريع في علمنا بالعدو بعد حلوله في صحن الدار. فقد كتب القانوني الدرديري محمد أحمد، الرمز المرموق في دولة الرئيس المخلوع عمر أحمد حسن البشير، كلمة طويلة منذ أسبوع عن هذا الوفود الأجنبي عن طريق الدعم السريع إلى السودان لقيت رواجاً كبيراً. وسمى الدرديري وفود هؤلاء العرب إلى السودان بـ”التشريقة” ناظراً إلى “تغريبة” عرب بني هلال في شمال أفريقيا ومترتباتها.
ولا يعيب الكلمة أنها تأخرت لسبق السيف العزل فحسب، بل لصرفه لوفود هؤلاء العرب كمجرد مؤامرة قام عليها المشتبه فيهم المعتادون: الصهيونية والغرب. فقال في كلمته إننا لم نعتن بدراسة هؤلاء العرب، الذين سماهم “عرب الشتات” في مالي والنيجر ونهر شاري، ممن يتهمهم كثير من السودانيين بأنهم الجند المؤثر في الدعم السريع. فاقتصرت دراستهم، على قلتها في قوله، على ما جاء في بطون الكتب.
وأضاف أن من اعتنى بدراستهم في المقابل هم اليهود. فاستخدموهم لإشعال فتنة دارفور منذ 2003 والتي كان متحف الهولوكوست في واشنطن إحدى قبلها المهمة. فأذاع خبرها، وبشع بنظام الإنقاذ في العالمين بسببها، وتبنى الدفاع عن ضحاياها.
وأرادت فرنسا من الجهة الأخرى، في قول الدرديري، التخلص من أولئك العرب لأنهم جماعة رفضت الاندماج في مجتمعاتها الأفريقية المحلية، وارتبطت بالإرهاب من منصات إسلامية. ومن مقاصد توطين عرب الشتات في السودان، بحسب الدرديري، تغيير نخبه التي تداولت الحكم فيه بعد الاستقلال بأخرى علمانية المزاج تخترق لاءات الخرطوم الثلاث “لا تصالح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو الصهيوني” التي صدع بها مؤتمر القمة العربية في الخرطوم بعد هزيمة 1967.
هكذا تبنى الدرديري نظرية المؤامرة لتفسير هذه التشريقة التي قال إننا ضحاياها في السودان بينما حللتها المظان العلمية عند غيرنا على أنها وجه من وجوه مأساة البادية من عرب وغير عرب في الساحل الأفريقي. فمعلوم جور الطبيعة على هذا الإقليم الأفريقي منذ بداية السبعينيات. فضربته بموجات من الجفاف والتصحر جعلته غير صالح لسكن البشر مما رمى أهله في محنة وجودية.
ومع ذلك لا يكتفي علماء الاجتماع والسياسة برد محنة البادية الأفريقية في الساحل إلى الطبيعة وحدها. فيقولون إن حياة رعاة الساحل تضعضعت حتى قبل كوارث الجفاف والتصحر. فسياسات الدول التي هم بعض رعاياها أجحفت بتغولها على حقوقهم في أرضهم، وسد سبلهم إلى مواردها. فلاحقتهم الدولة باسم الحداثة بسياسات الاستقرار من عل لأن الترحل عاهة خالفة. واستباحت مساراتهم التقليدية للمستثمرين الموسرين ذوي المداخل للتمويل من مصارف الدولة. وحظي هذا البديل لاستثمار أرض البوادي بتشجيع من سياسات للبنك الدولي زكت للحكومات أن تحسن الاستفادة من أرضها بمثل الزراعة الآلية لا أن تتركها لرعاة بدائيين يجوبون فضاءها بلا طائل.
بين الحداثة والحياة المترحلة ما صنعه الحداد. فما أزرت الطبيعة بالبادية الأفريقية مثل إزراء مفهوم الحداثة بهم. فقد أراد بالحداثة أن تبدلهم حياة غير حياتهم. وبالنتيجة كان سبيل حياتهم في العيش بالترحل من أعاقهم في الصراع حول الموارد المتناقصة في المرعى والماء. وحالت حياتهم المترحلة دون نيل حظهم من التعليم الذي جرى تصميمه لحياة المستقرين لا جوابي الآفاق. فباعدت حياة الترحل، وما ترتب عليها من انقطاعهم عن التعليم الحديث، بينهم وبين أن يكون لهم صوت في سياسات الدولة بأي قدر. فتخلقت بالنتيجة وبمر الزمن بيئة اجتماعية لا غرابة أن أفرخت لا مجرد جدب في حياة أهلها بل طبعتهم على الإرادة في تغيير ما بهم.
فلو ضربنا بالطوارق البربر مثلاً على أزمة الرعاة الوجودية في الساحل لوجدنا أن جريرتها ربما وقعت على سياسات حكوماتهم حيالهم قبل الطبيعة. فبعد ويلات دورتين للجفاف (1973-1974 و1983-1984) ترك كثير من شبابهم أسرهم في مالي والنيجر إلى ليبيا والجزائر بحثاً عن طريق غير تقليدي في الرزق. وجرت تسميتهم بـ”الشمر” بما يعيد للأذهان نشأة “الجنجويد” في دارفور. واتصلوا في ليبيا بفيلق معمر القذافي الإسلامي فخامرهم حس بهوية طوارقية متجاوزة الحدود السياسية لدولهم ومن فوق وعي بالظلم الواقع عليهم.
وبدأت ثورتهم في مالي منذ 1990 بقيادة حركات مسلحة طالبت برد الاعتبار لمواطنتهم وبتوزيع مقسط للسلطة والثورة، بل نادى بعضهم باستقلالهم في دولة خاصة بهم. واكتنفت ثوراتهم ملابسات ربما أخفت جوهر مظالم الطوارق والعرب البادية. فنشط في سياق أزمتهم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي تعقبته أميركا باسم محاربة الإرهاب. وتحول الصراع في أطوار منه إلى صراع بين الطوارق والعرب والماليين من أصول أفريقية صرف. كما ضرب الخلاف تلك الحركات فلم تستثمر بكفاءة في المساومات التي عقدتها مع الحكومة المالية. وبدأت ثورة الطوارق في النيجر عام 1991 وكان بعض قواتها من سبق له التجنيد في كتائب القذافي.
وتجد بين من درسوا محنة البادية في الساحل من لم يكتف في تحليها لا بجور الطبيعة ولا الحكام، فمن قال منهم إنه كان الطوارق في الصحراء سحابة تاريخهم كله. ولا بد أنهم تجاوزوا من جور الطبيعة محناً أشد خلال ذلك الزمن. ويميل هؤلاء المراجعون في تحليل أزمة الساحل إلى تحميلها للاستعمار الذي جرد الحدود التي اصطنعها لمستعمراته جزافاً من الإنسانية. ففرقت الطوارق مثلاً عشوائياً بين الجزائر وبوركينا فاسو ومالي والنيجر. ثم ثبتت منظمة الوحدة الأفريقية هذه الحدود الموروثة منعاً للزعازع بعد الاستقلال، فأربكت هذه الحدود شعباً كالطوارق نشأ على الترحل في فضاءات طبيعية لا وطنية مما يشبه قولنا في السودان “الرحيل عز العرب”.
فثورة الطوارق والبادية في الساحل عامة، في قول هؤلاء المراجعين، هي ثورة هذه السجية التي اعتقلها وطن قومي مفروض عليها من أعلى. فقيد السعية دون الرعي في فضاءات خلت من تلك القيود قبل قدوم الاستعمار، ناهيك بأن هذه الحدود الصارمة ساقت، بمثل اعتقال السجية الرعوية دون فضاءاتها التقليدية، للصراع الحثيث حول الموارد الشحيحة مع تزايد السكان خاصة. وربما كانت ثورات البادية تلك في الساحل هي التي حدت بمنظمة اتحاد دول غرب أفريقيا (أكواس) لإصدار قرارهم في 1998 ليؤمن للرحل الطلاقة في الترحل عبر الحدود الوطنية. فتستضيف الدولة بمقتضى هذا القرار رعاة رحلاً من دولة أخرى بعد فحص ما يعرف بشهادة العبور الدولي، تتضمن عدد القطيع وتكوينه ووجهته وثبوت تطعيمه ضد أمراض الحيوان، وهذه الدولة المضيفة هي التي تحدد وقت دخول القطعان فيها ووقت مغادرتها.
لا أعرف إن كنا سنخرج من هذه الحرب، متى وضعت أوزارها، بأننا كنا ضحايا مؤامرة لتشريقة عرب الشتات كما يريد لنا الدرديري. وصح خلافاً لذلك أن نجود تحليل هذه التشريقة بردها إلى اقتصادها واجتماعها وسياستها حيث نشأت. ومن وجوه هذا التجويد إعمال النظر المقارن مع محنة البادية السودانية التي خضع أسلوب عيشها المترحل إلى بلاء مماثل لبادية الساحل، بل أشد. فشكوى البادية القائمة في السودان في يومنا من انكماش مسارات قطعانها هو احتجاج كبير على تصرف الدولة في دورها واقتطاعها لأصحاب رخص مشاريع الزراعة الآلية من صفوة البلد. ويكفي بياناً على مترتبات تصرف الدولة المعيب هذا أن المتخصص بالشأن الجنوب سوداني الباحث دوقلاس جونسون، رد كل حروب السودان نفسها إلى تغول الدولة الحديثة على اقتصاد البادية وهويتها في كتابه “جذور حروب السودان الأهلية” (2003).
وربما سيكون الدرس الأكبر من هذه الحرب هو وجوب أن نعدد “العلاقة الأزلية” بمن حولنا وبقدر ما للسودان من دول مجاورة. فقد اقتصرت هذه العلاقة تاريخياً على مصر بإهمال لعلاقات أزلية أخرى مع دول الجوار إلى أن جاءتنا من بعضها هذه التشريقة ونحن على غفلة. فمفهوم ألا نرى علاقة أزلية إلا مع مصر نحسن معرفة كل حركة فيها وسكنة بمداخلها على العالم العربي الآخر طالما كان مقود السياسة في يد صفوة وادي النيل الشمالية خلال الحركة الوطنية وفي الدولة المستقلة. وبقدر ما تعزز النادي السياسي بصفوات من جنوب السودان وشرقه ودارفور ظلت مصر هي محط النظر. واكتفت الصفوات من الهامش بمجرد الاحتجاج على فرط التركيز على مصر في العلاقة الأزلية بينما قعدت من دون اقتحام استراتيجية العلاقة الأزلية بجغرافيا غيرها من بلدان جوار ذات علاقة وثقى بأقاليمهم مثل دول الساحل الأفريقي. وجاءتنا هذه التشريقة المدججة من بلاد جار لم تكن في رادارنا استراتيجياً.
لربما صحت الشكوى من ضعف استعدادنا الاستراتيجي لتشريقة عرب الشتات من الساحل الأفريقي إذا أخذنا على صفوة الفكر خلوها من أي معرفة بتخلقها بأكثر من صحة شكوانا عن ضعف استعداد القوات المسلحة للتصدي لها في الميدان. وأخشى أن يفوت علينا درس هذه التشريقة المحرج إذا اكتفينا من غنيمة العلم الأوفى بها بنظرية مؤامرة تعزي ولا تفيد.