حرب السودان وابتذال قضية الانتهاكات!
كتبت: رشا عوض
.
إن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان فعل ملازم للحروب، ولا سيما حروب المدن التي تدور رحاها وسط المناطق المأهولة بالسكان، واي رغبة صادقة في حماية الناس منها لا بد أن تتجسد في الانحياز للخيارات السياسية التي تعصم الأوطان من الانزلاق لطاحونة الحروب، أما إذا اندلعت الحرب فعلا فإن الحرص على سلامة المواطنين يقتضي السعي لإيقاف الحرب لتجفيف منبع الانتهاكات وقطع جذرها الرئيس، ولكن من وجهة نظري ، أثناء الحرب يجب أن تدين القوى المدنية الديمقراطية الانتهاكات المصاحبة للقتال انتصارا لمبادئ حقوق الإنسان في المقام الاول، و كجزء من عملية التعبئة ضد الحرب وتعرية أطرافها وعزلهم سياسيا، وتكريس خيار السلام والحلول السياسية التفاوضية، ويجب أن يصدر ذلك عن منصة مستقلة سياسيا عن طرفي القتال، فلا تتردد في كشف تفاصيل الانتهاكات وادانتها وتسمية الجهة المسؤولة عنها دون أغراض سياسية، ويجب أن يكون لدينا مرصد مستقل لتوثيق جرائم التعذيب والقتل والاغتصاب والاعتقالات والاخفاء القسري ونهب الممتلكات وطرد المواطنين من منازلهم واحتلالها وكل ذلك بشكل مهني يتحرى المصداقية استعدادا لتحقيق العدالة للضحايا مستقبلا ، فلا للصمت او التستر على انتهاكات الدعم السريع، ولا للصمت او التستر على انتهاكات الجيش.
الابتذال والمزايدات
التصدي الصارم لانتهاكات حقوق الإنسان قضية نبيلة ، وشأنها شأن كل القضايا العادلة للشعب السوداني تتعرض هذه القضية المقدسة لابتذال وتدنيس كيزاني ممنهج، وفي هذا السياق يعمل الكيزان بصورة منهجية على التكسب السياسي باستغلالها عبر تحويل انتهاكات طرف واحد من طرفي الحرب وهو الجنجويد لقضية مركزية على أساسها يتم توزيع صكوك الوطنية واتهامات الخيانة والعمالة، والهدف من ذلك هو القفز سريعا إلى اصدار احكام الإعدام السياسي على خصومهم السياسيين المدنيين الذين لم يشعلوا حربا ولم يحملوا سلاحا بل حذروا من خيار الحرب لأنها بداهة لن ترشق المواطنين بالورود والرياحين على وقع الحان عذبة! فما الحرب الا ما علمنا وذقنا! ما الحرب الا ذلك الرصاص الأعمى وتلك الدانات والقذائف التي تحصد ارواح الأبرياء وتقطع أوصالهم.
الاسطوانة المشروخة المبثوثة بعناية بواسطة إعلام الكيزان خلاصتها ان قوى الحرية والتغيير( قحت)خائنة، وعميلة وغطاء سياسي للدعم السريع لأنها لم تصدر بيانات تدين فيها انتهاكات المليشيا من احتلال منازل واغتصاب نساء ونهب ممتلكات ولذلك هي غطاء سياسي للجنجويد وعلى هذا الأساس يجب أن ينبذها الشعب السوداني ويشيع جثتها إلى مزبلة التاريخ!
هذا المنطق مهزوم من وجهين، الأول، هو ان قحت التي لم تصدر بيانات تفصيلية في إدانة انتهاكات الجنجويد، أيضا لم تصدر بيانات تفصيلية لإدانة انتهاكات الجيش من قصف جوي داخل مناطق مأهولة بالسكان الأمر الذي ترتب عليه سقوط قتلى وتقطيع أطراف مواطنين وهدم منازلهم وتدمير منشآت حيوية ومستشفيات واسواق، ولم تدين تقصير الجيش في توفير الحماية للمدنيين وتركهم يواجهون الجنجويد وحدهم، فلماذا لا يتم تفسير ذلك بأنه تأييد للجيش وتوفير غطاء سياسي له؟
قحت تبرر عدم إصدارها لبيانات الإدانة ضد الدعم السريع وضد الجيش بوقوفها على مسافة واحدة من الطرفين ونأيها عن الاستقطاب لصالح أي طرف واستعداء الطرف الآخر، اعتقادا بان هذا الموقف هو الأوفق لمحاصرة خيار الحرب واقناع الطرفين بالحل التفاوضي، وهذا تقدير سياسي، يمكن قبوله ومن المشروع جدا رفضه والحكم بأنه خطأ، ومن وجهة نظري ان الصحيح هو ان تدين قحت الدعم السريع صراحة عند ارتكابه انتهاكات، وان تدين الجيش صراحة عندما يرتكب انتهاكات، ولكن ما يريده الكيزان هو إدانة طرف واحد فقط، وعدم الوقوف عند حدود الإدانة بل الاصطفاف السياسي خلف كتائب ظلهم وترديد شعارات بل بس والدعوة لاستمرار الحرب حتى إخراج آخر جنجويدي من الخرطوم حربا! فهل يمكن تسويق موقف متطرف في تأجيج الحرب كحرص على حقوق الإنسان؟! وما هو المنطق في أن يكون دعاة إيقاف الحرب وإحلال السلام هم أعداء حقوق الإنسان المحبون للانتهاكات بينما يكون من يدقون طبول الحرب ويبذلون قصارى جهدهم لتوسيعها واطالة امدها هم أصدقاء حقوق الإنسان الكارهون للانتهاكات؟
الحكم العادل
اما الوجه الثاني والأكثر أهمية لهزيمة هذا المنطق فهو إذا كان التشييع الى مزبلة التاريخ وسط لعنات الشعب هو الحكم العادل على قحت لمجرد انها لم تصدر بيانات الإدانة للانتهاكات فما هو الحكم العادل بذات المعيار، على الذين صنعوا المليشيا التي انتهكت(صنعوها خصيصا ومع سبق الإصرار والترصد لتمارس الانتهاكات الغليظة لصالحهم) ودربوها وسلحوها وحصَّنوها وكانت أجهزتهم الأمنية تعاقب من يفتح فمه ضدها؟ ما هو الحكم العادل ضد من فتحوا بيوت الأشباح واغتصبوا النساء والرجال داخلها وارتكبوا المجازر والإبادات الجماعية والاغتصابات بالجملة في دارفور وشهد عهدهم أبشع جرائم الحرب في تاريخ البلاد، وتحدث رئيسهم عن مقتل عشرة آلاف مواطن بمنتهى الرعونة في سياق تقليل حجم الكارثة!! واستخف بجرائم الاغتصاب في دارفور بسخرية عنصرية تناقلتها الأسافير! وللمفارقة كان اساتذة حقوق الإنسان الجدد في ذلك الوقت في صف البشير الذي يصفونه برمز السيادة الوطنية ويتهمون بالخيانة والعمالة والارتزاق كل من طالب بمثوله أمام محكمة الجنايات الدولية!! فما هو الحكم العادل الذي يجب ان يصدره الشعب على المسؤولين عن كل هذه الانتهاكات تخطيطا وتدبيرا وتنفيذا وحماية للأيادي الآثمة من أي ادانة ناهيك عن محاكمة، لأن تلك الأيادي هي أياديهم بالأصالة أو بالوكالة! بل وتجريم وتخوين من يدين او يكشف الحقيقة!
تأسيسا على كل هذه الحقائق يحق لنا ان نتساءل ما هو سر الصحوة الحقوقية المفاجئة ويقظة الضمير الكيزاني واكتسابه للحس الإنساني المرهف فجأة بعد الغلظة وموت الضمير طيلة عهدهم الممتد لثلاثين عاما؟! ومتى كانت انتهاكات حقوق الإنسان مادة مطروقة في أدبيات الكيزان او شيئا مذكورا في خطابهم القائم اصلا على التشكيك في مشروعيتها باعتبارها أداة غربية للتآمر على المشروع الإسلامي! الإجابة إنه الغرض السياسي فقط لا غير! والرغبة في تصفية الحساب مع الخصوم، وإثارة غبار المزايدات الوقحة بكثافة لحجب الرؤية عن جريمة الكيزان الكبرى ممثلة في ” إشعال الحرب وصب البنزين على نارها كي تستمر وتتوسع”، وتوجيه الانظار إلى نتائج الجريمة وتداعياتها ممثلة في الانتهاكات! فتصبح القضية المحورية هي تداعيات الحرب ونتائجها لا الحرب نفسها والجهة السياسية المسؤولة عن إشعالها وفرضها على الجيش دون استعدادات عسكرية وبناء على حسابات كيزانية مجنونة ضربت عرض الحائط بالمنطق الاحترافي لفنون القتال! ومن ثم فتحت أبواب الجحيم على الشعب السوداني وخلقت البيئة الخصبة لكل الانتهاكات، يتم تحوير للقضية عبر صرف النظر عن أم الكوارث والشرور( الحرب اللعينة)! وعلى هذا الأساس بدلا من ان تكون القضية الوطنية هي بلورة موقف أخلاقي و سياسي وحقوقي من الحرب نفسها كوسيلة تغيير سياسي، وبلورة رؤية واضحة لخيار السلام وكيفية التغيير السلمي عبر الحلول التفاوضية والسياسية لأن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ الابرياء من ويلات الحرب، ينحرف النقاش كلية الى موضوع انتهاكات قوات الدعم السريع وكأنما هذه القوات هبطت من السماء يوم 15 أبريل ولم تخرج من جحور المؤامرات الكيزانية على الدولة السودانية وشعبها! ومن رحم القوات المسلحة! وكأنما الجنجويد لم يمارسوا القتل والسلب والنهب والاغتصاب الا في الخرطوم بعد الخامس عشر من أبريل ! وكأنما تاريخ الانتهاكات في السودان بدأ في هذا اليوم!
وقمة المسخرة ان من يجلسون في مقاعد الاستاذية الحقوقية ويزايدون في موضوع إدانة الانتهاكات هم أبواق النظام البائد من كتائب الظل الإعلامية بالإضافة الى حمالات الحطب الذين يعارضون الحلول السياسية ويطالبون باستمرار الحرب ويصطفون سياسيا خلف الفصيل السياسي الذي أشعلها ممثلا في فلول النظام البائد المنخرط فيها بكتائبه ومليشياته!
من ادخلنا في هذا الجحر؟
وهذا الفصيل السياسي هو من أدخل الدولة السودانية في عنق زجاجة المليشيات المتعددة، وهو من انشأ مليشيات الجنجويد في كل مراحل تشكلها ومسمياتها، والجيش الذي يسيطر الكيزان على قيادته هو من درب وسلح هذه المليشيات، ونظام الاسلامويين هو من تعهد هذه المليشيات بالرعاية والتمويل من مال الدولة السودانية وقننها وشرعنها من داخل برلمانه فتحولت من جنجويد الى حرس حدود وقوات دعم سريع، وحصَّنها من مجرد النقد والمساءلة عن الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها في إقليم دارفور وكان كل من يتحدث عن المجازر والإبادات الجماعية وحريق القرى وطرد المواطنين من حواكيرهم وتوطين وافدين من خارج الحدود فيها تصفه أبواق نظام الكيزان بالخيانة والعمالة للمنظمات الصهيونية والغربية المعادية للنظام الاسلامي! وكانت الصحف تُصادَر، والصحفيون يُحاكَمون، والسياسيون يتم إيداعهم السجن عندما يدينون انتهاكات الجنجويد عندما كانت هذه الانتهاكات تتم في سياق تثبيت كراسي الكيزان في السلطة! وعندما كان الجنجويد درع حماية لسلطة الكيزان من زحف التمرد المسلح في دارفور وعندما كان عمر البشير محتميا بحميدتي من الشعب السوداني(حميدتي حمايتي)!
سبب خفي لحديثهم عن الانتهاكات
فأين كان الأستاذ عادل الباز ورفاقه في كتائب الظل الإعلامية واين كانت ثوريته الحقوقية وحساسيته المرهفة ضد الانتهاكات في ذلك الوقت؟ وهل يظن عادل الباز ورهطه ان متلازمة “البجاحة وقوة العين وانعدام الحياء السياسي” كافية لبث الروح في مشروعهم العاري سياسيا واخلاقيا ولم يتبق له سوى غطاء واحد هو الجيش الذي يريدون استغلاله للعودة الى السلطة؟ ولهذا السبب فقط هم ملتصقون بالجيش كالتصاق القُرادة(حشرة طفيلية تتغذى على الدم وتسبب المرض والوهن)! تأييد الكيزان للجيش لا علاقة له بالوطنية إذ انهم مارسوا أبشع أنواع العدوان على قومية ومهنية الجيش، ولا علاقة له بمبدأ معارضة المليشيات لأنهم في ذات اللحظة التي يمارسون فيها المزايدات الوقحة والابتزاز الأرعن تحت عنوان وجوب دحر المليشيا المتمردة يحشدون مليشياتهم الحزبية الخالصة ممثلة في كتائب الظل ويستنفرونها للقتال وحتما سوف تكون هذه الكتائب هي جنجويد دولة النهر والبحر في المستقبل القاتم الذي يخطط له الكيزان لهذه البلاد المنكوبة.
اما عندما يرفع الكيزان عقيرتهم بحديث الانتهاكات فهم يفعلون ذلك لأن الانتهاكات هذه المرة لم تقتصر على المواطنين المساكين الذين لا يشعر الكيزان بوجودهم اصلا، بل طالت لحمهم الحي! فكانوا هم بشخوصهم في مرمى الانتهاكات، فالجنجويد استهدفوهم بشكل مباشر في النهب والاعتقالات واحتلال المنازل وسلب العربات، ولا مجال للشماتة هنا، فمشروعنا المدني الديمقراطي الذي لا مساومة فيه هو سيادة حكم القانون ومواجهة الفساد بآليات منسجمة مع الروح السلمية لهذا المشروع وقيمه الديمقراطية.
كنا نحلم بمشروع انتقالي قوامه الإصلاح الامني والعسكري وصولا الى الجيش القومي المهني الواحد، والاصلاح القضائي والعدالة الانتقالية وتفكيك التمكين لتسوية الملعب السياسي لانتخابات حرة نزيهة حقيقية.
ولكن الكيزان اختاروا قلب الطاولة على هذا المشروع بالحرب التي ظنوها خاطفة وسريعة ستعيد اليهم سلطتهم خالصة من “أدران الثورة”! فإذا بالحرب تتطاول وتدخل الجنجويد الى منازلهم وخزائنهم.