حربنا: حين تلاشت الحدود بين السياسة والجريمة
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
بدا من خطابنا حول الحرب القائمة فينا أننا لم نُولها حقها بحثاً عن طبيعتها ومنزلتها في فقه الحرب والسلام الدولي والشرائع التي تحكم وضعيات المتحاربين من جهة التزاماتهم وحقوقهم. فمن قالوا إنها حرب عبثية ما زادوا على ما يمكن قوله أخلاقياً عن أية حرب، ولكنهم وقفوا بهذا دون النفاذ إلى صورة السياسات التي استدعتها بتعريف معلوم قائل إن الحرب هي السياسة بصورة أخرى.
وعوضاً عن هذا الشغل في ديناميكية الحرب جعلنا من البحث عن أسباب اندلاعها مناسبة لتسعير الخلاف بين اليمين واليسار، فكل يرمي الآخر بأنه من كان وراء الحرب، وأنه سيبوء بعاره إلى جني الجني.
ومن تعرض منا لطبيعة قوى الحرب وميدانها لم يصب نجاحاً. فوصف “الدعم السريع” بأنه “مرتزق” ربما صدق بالنظر إلى خدمته المأجورة لنظام الإنقاذ، ولكنه لا ينطبق مئة في المئة على حالها إذا أخذنا مأخذ الجد قيامها على قانون صادر في 2017 ومعدل في 2019، لا على جندها الذين جاؤوا من كل فج عميق من بلاد الساحل الأفريقي ولم نقف على نسبتهم من كل حشدها بعد. وجعل القانون والتعديل منه “قوى نظامية” كاملة الدسم بلا أدنى علاقة بالقوات المسلحة تقريباً سوى صرف أجور قواتها من ميزانية وزارة الدفاع. والرأي عندي أن “الدعم السريع” أقرب إلى شركة خدمات عسكرية على نهج “فاغنر”، ولا نفصل فيه هنا.
وقيل من جهة حومة الحرب إنها حرب مدن مما مهرت فيها “الدعم السريع”، بينما خلا الجيش من الخبرة فيها، وما هي كذلك. فتعريف محارب المدن أنه من يأوي إلى بيوت المدينة الشريك في القضية ليأمن، بينما تتخذ “الدعم السريع” بيوت المدينة دروعاً بشرية للغاية، علاوة على خطأ تزكية “الدعم السريع” لخفة الحركة مما يقال إنها انطبعت عليه، ولكن سرعة حركة “الدعم السريع” بنت حرب السهول الخلاء، لا المدن المكدسة بالسكان والعمارات.
إذا لم ننفذ إلى هذه الحرب بسلطان علم الحرب والسلام صارت فينا مجرد “ابتلاء” ضرير لا نعرف من أين جاء؟ ولماذا؟ وكيف نلجمه؟ وكيف نحسن في عاقبته متى تداركنا أنفسنا منه؟ ولن نجد مع ذلك بغيتنا في الفقه المعاصر للحرب والسلام، الذي نحن عالة فيه على الغرب، لغلبة الخبرة الأوروبية من حروب دولها المحلية والعالمية وأخلاقياتها عليه. فحروبنا في أمم ما بعد الاستعمار على خلاف أوروبا، فنحن في أزمة مزدوجة في قول أحدهم، فلم تعد الحرب امتداداً للسياسة بصورة أخرى تقع في أعقاب سياسة مسدودة لتنتهي بتفتح مسام السياسة، وخلافاً لذلك صارت الحرب هي السياسة.
فلم تعد أزمة السياسة عندنا في اكتفاء اللاعب بحوز الشوكة فيها فحسب، بل صارت الأزمة هي السياسة في تعريفها ذاته. وليس أدل على ذلك من أن الفاصل بين السياسة والجريمة يكاد يتلاشى في البلاد التي تخضع الآن لهرج سلاح العصابات في مثل هايتي والسلفادور والإكوادور. فهذه العصابات ذات السطوة لا تريدها حرباً كاملة ولا سلماً كاملاً لأن كليهما ضار بأشغالهم وأعمالهم. فالحالة قواماً بين الحرب والسلام هي ما يؤمن صفقاتهم المجرمة.
لربما فهم العالم عن حربنا غير ما فهم لو أحسنا عرض الحرب الدائرة عندنا في سياق أزمة الدولة الحديثة في دول ما بعد الاستعمار التي فرطت مؤسسة قواتها المسلحة في احتكارها للسلاح. لو وضح للعالم هذا الحرج الحداثي لما سميت حربنا “أهلية” بين جنرالين في مجرى فقهه وعادته. فلربما حملنا العالم على غير مجراه هذا متى تمكنا نحن أنفسنا من الإحاطة بحربنا في خصائصها الدقيقة. وسبق لأفريقيا أن حملت العالم للانعتاق من فقهه عن المرتزق حين جعلت من نشاط المرتزقة فيها أسبقية سياسية لأمن القارة قبيل استقلالها وبعده كما سنرى.
ففقه الغرب للحرب والسلام خالف حتى عن تطورات عسكرية نشأت في وسطه. فجاءت صناعة استئجار الخدمة العسكرية فيما عرف بالشركات العسكرية الخاصة مثل “فاغنر” في غيبة أي فقه دولي يشرع لها. فكان ذلك الفقه اقتصر على الارتزاق في السابق حتى قال عالم في المجال إن “القانون الدولي كما هو عليه الآن بدائي للغاية في هذه الجهة ليعالج أمراً معقداً ظهر في العقد الأخير”. فوقعت هذه الشركات خارج كل الأطر القانونية المتوافرة في وقتنا على خطرها، بل ومساسها بحربنا كطرف أصيل فيها.
وككل صناعة تحكم الاقتصاد في ممارسة شركات الخدمات العسكرية لا القانون، بل وغطت الدول المؤثرة التي توظفها على عاهاتها. فحين أرادت الأمم المتحدة تطبيق تعريف الارتزاق عليها استنكفت دول كبرى ضالعة عن الموافقة على ذلك. وطالما كانت هذه الشركات صناعة رابحة سوقها مكرت مكر الشركات المعتاد في الاحتيال على تعريف المرتزق حتى تحمي طاقمها من طائلة القانون. فقانوناً تخرج الشركة من طائلة الارتزاق متى ارتبطت عضوياً بالدولة التي استعملتها، ولكن غالباً ما ترفض هذه الدولة للشركة التسجيل في بلدها لأنها لا تريد أن يصيبها رشاش من صيت سيئ لها في ميدان الحرب. فتجد الشركة مخرجاً بتسجيل نفسها في بلد آخر، كما قد تتفادي تعريف المرتزق كمجند في حرب نزاع مسلح بالتعاقد مع منسوبيها كموظفين مستديمين بالشركة لا رجال ضربة واحدة.
وهكذا، قد نشكو مر الشكوى من “فاغنر” التي تكن لها أميركا عداءً شديداً ولا تملك مع ذلك من أمرها معها شيئاً في السودان مع أنها من عوامل الزعزعة الكبرى في هذه الحرب. فالقانون الدولي لا يطاولها. وسيتطلب الأمر أن تنهض أفريقيا ضد مثل “فاغنر” قومتها في السبعينيات ضد المرتزقة ليعتبر القانون الدولي مظلمتنا منها ومن مثلها ويقنن لتعقبها قانونياً.
نريد أيضاً من إحساننا فهم طبيعة حربنا الدائرة أن نقارب النقد الموجه لبعثات سلام الأمم المتحدة في بندها السابع الذي ربما طاولنا في أي وقت. فسنجد في هذا النقد ما يتفق مع إحدى أهم طبائع حربنا، وهو دور الساحل الأفريقي في مشروع “الدعم السريع” السياسي وجنده. فأصل أكثر جذور الحرب الناشبة في أزمة البادية العربية والأفريقية في ساحل أفريقيا بعد عقود من الجفاف والتصحر وضلال الحكم فيها جعلت مساكنها بلقعاً طارداً طلبت به أن يبدلها الله غير الدار.
فأميز ما في هذا النقد، علاوة على تقرير فشل هذه البعثات في مواضع كثيرة، هو ما طابق حالنا في إقليمنا. فمما أوصى به مثل جان – ماري جيوهينو، الدبلوماسي الفرنسي العلم، أن تركز هذه البعثات على إنهاء الحرب في بلد عضو فيها لا على ذلك البلد فحسب، بل على نطاقه الإقليمي. فقال إن الخبرات التي تراكمت للأمم المتحدة من بعثات سلامها تلح عليها أن تتجاوز التركيز على الدولة المحتربة في اختصاصها، بل إن تشمل إقليمها أيضاً في تصميم بعثتها ذاته.
فمن غير الواقعي أن تتوقع بلوغ حل للنزاع بمعزل عن سياقه الإقليمي، بل صح القول إن الحدود الصارمة بين دولة وأخرى هي ما سبب النزاعات. فترحل الناس، الذين ليسوا طرفاً في صناعة تلك الحدود التي فرضت على وجودهم التاريخي فرضاً، عبر الحدود مما قد يسبب النزاع. وصح أن تعتبر بعثة السلام بهذا وتحسن إدارته.
الحرب هي ما علمنا وذقنا. وسيزداد علقمها مرارة إن انصرفنا عن إدراك طبيعتها ومغازيها السياسية والاجتماعية والعسكرية لتذليله لعالم لم يستوعب بعد خبرة حربنا وخصائصها في فقه حربه وسلامه.
وهذا أو الحديث المرجم عن الحرب.