الدولة القومية و صناعة حقيقة الوهم
كتب: بكري الجاك
.
جالت بخاطري عدة أفكار في لحظة احتفاء بي من قبل البلد المضيف كخبير زائر في تركمانستان وفي أثناء تجوالي في المتحف القومي للدولة الوليدة التي نالت استقلالها بشكل حديث و ذا معنى في عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ففي هذه المنطقة تواجدت قبائل و قوميات التركمان الخمس و مرت عليهم عشرات الدول منذ ما قبل العصر البرونزي و من ثم الاسكندر المقدوني و غزوات المنغوليين المتكررة و مرورا بالدولة العثمانية ثم اخيرا الغزو الروسي في عام 1887 و الذي قاومته قبائل التركمان خسرت الحرب التي تحتفي بها اليوم و اصبحت هذه الدولة في كنف التاج الروسي من أيام القيصر إلى حين قيام الثورة البلشفية في عام 1917 و من ثم اتحاد جمهوريات السوفيت. تأملت كثيرا في الكيفية التي سعت فيها حكوماتهم، أو بالأحرى رؤسائهم الثلاث منذ الاستقلال بالسعي الدؤوب لإرساء دعائم دولة قومية بالبحث فيما يوحدهم و يشكل وجدانهم المشترك هذا مع العلم أن اللغة المحلية (التركمان) تكاد تكون اندثرت بالكامل إبان الحكم الروسي و أصبحت اللغة الروسية (و مازالت الي حد ما) هي اللغة الرسمية. ما قامت به الحكومات المتعاقبة هو محاولة استنهاض بعض همم التاريخ و ما يصنعه من تصورات عن بطولات الأجداد و الآباء و من ثم مزجها بمنتج مادي معاصر، ففي حالة تركمانستان توظيف صناعة السجاد التي هي قديمة قدم طريق الحرير الذي يربط آسيا بأوروبا قبل أكثر من آلاف السنين. أصبحت صناعة السجاد بمثابة المفخرة الوطنية بتشكيلات من النسج تعكس طريقة كل إقليم و قومية. في هذه اللحظة وجدتني أنظر لهذا التاريخ الذي هو محل احتفاء من قبل مضيفة المتحف التي كانت تتحدث بفخر وزهو عن تاريخ بلادها و كيف أنها كانت أصل البشرية و كيف أنها الآن تقف شامخة بين الأمم، لم يتمالك الناقد الأكاديمي في داخلي من أن يتساءل: و هل فكرة الدولة القومية ليس سوى محض حقيقة لوهم مصنوع مع بعض توابل التاريخ مع شيء من المقومات المادية لشروط الحياة التي هي خليط من تصورات مستمدة من ما هو ثقافي (رمزي) و بعض جدل الواقع و المستقبل بشروطه المادية الاقتصادية ومحفزاتها. و بغض النظر عن ما إذا كانت فكرة الدولة القومية وهم مصنوع لكنه يصبح حقيقة حيث يموت الناس من أجلها في حروب في أغلب الأحيان لا معنى لها البتة و يدافعون عن كينونتها أم هي حقيقة موضوعية لها تمظهرات تاريخية و معاصرة تختلط فيها الأسطورة بالحقيقة العلمية القابلة للبحث والاختبار، هذه الفكرة أصبحت جوهرية في عالمنا المعاصر و مهما تمرد الناس عليها فهي شرط وجودهم المادي و هي ما يمنحهم الكينونة و ما إذا كان يمكن اعتبارهم “قانونين” أم لا بدءا بفكرة جوازات السفر و انتهاءا بفكرة تأشيرات الدخول. فكرة الفيلم بليزتنفيل Pleasantville و افلام عدة على شاكلته تجعل فكرة الدولة القومية أشبه بالصناعة. هذا التأمل قادني الى التساؤل الذي ظل يشغل جٌلّ تفكيري في المسألة السودانية: ماذا حدث ليمنع فكرة تطور مشروع دولة قومية معقولة و مستقرة نسبيا في السودان؟ في العلوم الاجتماعية هناك ثلاث نظريات لفكرة قيام الدولة، أولها القوة و هذا ما جعل دولة مثل الصين تظل قائمة اليوم بعد توحيدها بالقوة، و يمكن أن نتأمل لو أن الدولة العثمانية لم تنهار بفعل الاحتلال الأوروبي و تقسيمها الى مستعمرات اوروبية، يا تري ماذا كان سيكون مصير هذه الرقعة التي تسمى الآن السودان و تدور فيها حرب ضروس؟ ثاني نظريات قيام الدول هي التطور التاريخي وهو ما يفسر قيام دويلات قومية في اوروبا في اعقاب انهيار عدة إمبراطوريات منذ الامبراطورية الرومانية و البروسية وغيرها من ممالك. النظرية الثالثة هي العقد الاجتماعي و ما أتي به فلاسفة النظرية الليبرالية من روسو و استورات مليز و لوك. في عالمنا المعاصر جٌلّ الدول الحديثة هي نتاج تداخل هذه النظريات الثلاثة فلا توجد دولة لم تخضع لمنطق القوة بالاحتلال او التوسع و ما تبعه من تطور تاريخي و من ثم عقد اجتماعي ينظم الحياة في المجتمعات قبل الدولة. الدولة السودانية خضعت لكل هذه النظريات من قوة و احتلال و دويلات قديمة و تطور تاريخي ومحاولات تطوير عقد اجتماعي، إلا أن ما صارت عليه يبدو مٌحيرا بعض الشيء حتى و ان كانت هنالك اجابات موضوعية (ساهمنا بتقديم بعضها من قبل)، والمحير ان ما اصاب السودان ايضا حل بالعديد من الدول في القارة الافريقية و غيرها إلا أن مصير الدولة السودانية حتى هذه اللحظة يبدو نشازا في حركة التاريخ المعاصر، فالعديد من الدول خاضت حروب أهلية أشد ضراوة من التي تمر بها بلادنا و على سبيل المثال نيجريا و سيراليون و ليبيريا و الكونغو و رواندا و أنغولا، و لا توجد دولة افريقية لا يوجد بها توترات اثنية و ممارسات سياسية تتخذ بعدا اثنيا فيما يعرف بـ عرقنة السياسية Ethnic Politics. نحن في حاجة إلى نظرية متكاملة للنكوص لفهم هذه الردة بقدر اعتقادنا في ودراستنا نظريات النمو والتحديث. في الفترة الأخيرة ترددت بعض المقولات التي تفترض أن هنالك حتمية عن أنه لابد من النهوض بعد هذا الدمار، و تتردد هذه المقولات في شاكلة أنه لابد أن تسوء الأوضاع قبل ان تتحسن لاحقا و أنه لابد من المرور بهذه الدوامة الشريرة للخروج إلى ما هو افضل، و هذه الفرضية صحيحة في مستوى المنطق الوصفي الخطي الذي يقوم على النقائض إذ ليس بعد استكمال دائرة السوء ليس الا أن تتحسن الأمور عملا بقول بيت الشعر “ ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت ..” وقول المثل “ أن بعد كل ضيق فرج” في إطار الثنائية التي ظلت تسيطر على العقل البشري الذي ظل يصنف الأشياء في حالة التضاد Dualism: خير و شر و هكذا. أعتقد أن مثل هذه التصورات التبسيطية لا تأخذ في الاعتبار طبيعة التعقيد الذي أصبح لازمة للعالم المعاصر و تداخلاته الجيوبولتيكية وأن القراءة الخطية لحركة التاريخ لم تعد فقط من الماضي بل لم تعد موضوعية وذات معنى تفسيري، ليس بالضرورة أن تتحسن الأمور بعد ضيقها بشكل موضوعي و كل ما يمكن أن يحدث هو أن يتعود الناس على سوءها و اي تحسن قليل يمكن أن يعطي احساس بالفرج. الانظمة الشمولية أجادت هذه اللعبة بخلق واقع متحرك على الدوام، خلق مشكلة يضيق الناس و من ثم حلها ليظهر النظام و كأنه قدم خدمات جليلة، أو أن يتعود الناس علي واقع العنف و الموت و حين تهدأ الامور قليلا يرون في ذلك تحسنا و انفراجا. حجتي هنا أن الاشياء لا تتحسن من واقع نفسها أو بمحض إرادتها الذاتية لأنها أكملت دورة السوء، بل إن أي شيء حدث في التاريخ كان هنالك فعل مادي قام به أناس ودفعوا بالأمور في اتجاهات ما خلقت ديناميكيات تطورت مع فعل الزمن لخلق واقع مادي جديد و معاش. انتظار أن تقوم دولة في السودان من هذا الركام فقط لأن الأمور وصلت إلى الحضيض هو افتراض خاطئ فيمكن أن تبقي الأمور في الحضيض و ليس للحضيض قاع ولنا في تجارب مثل الكونغو خير مثال، ما يجب أن نفكر فيه و نعمل له على الدوام ما الذي ينقصنا لصناعة حقيقة وهم الدولة القومية و ليس بالتصورات المثالية الطهرانية التي يتقول بها البعض هذه الأيام عن “مخاطبة جذور الأزمة” كلازمة وضرورة وما إلى ذلك من خطابات صحيحة في ظاهرها لكنها فطيرة في جوهرها، فيا قوم مخاطبة جذور الأزمات عملية و بروسيس Process تاريخي طويل و معقد و ليس حدث Event يمكن أن يخاطب في حفلة أو في مؤتمر و ستكون بعده الأمور بخير، وستظل الدولة القومية من اقصى الغرب الى اقصى الشرق في محاولة مخاطبة جذور ازماتها و ستظل في حالة انها تعكس طبيعة صراع المصالح الرأسمالية القديمة و الحديثة ( في الداخل والخارج بكل تعقيداتها) التي هدمها هكذا بجرة قلم مجرد حلم افلاطوني على أحسن الفروض أن لم يكن وهم صراح. خذ مثلا فكرة العدالة الاجتماعية أو العدالة النوعية و العدالة في مستواها المطلق هذه قضايا لا يوجد مقياس موضوعي ثابت لمدي تحققها و كلما اقتربنا من تحققها في مستوى ما سيتخلق مستوى آخر سواء الوزن ( الشكل) أو الميول الجنسية لتخلق ظرف جديد يتطلب العدالة. خلاصة القول، هل حقيقة ليس بإمكاننا التواضع على مشتركات من واقع هذا التراكم التاريخي تمكننا من خلق وهم أو حقيقة دولة قومية تقوم بالوظائف الاساسية للدولة الحديثة ( احتكار العنف، تنظيم المجتمع، و إنفاذ التعاقد)؟ و ليس مهما أن تكون دولة عظيمة يكفي أن تصون الكرامة فكل دول العالم تدعي أو تصطنع شكل من أشكال العظمة، على أن تعمل هذه الدولة على “مخاطبة جذور الأزمة” هذه الحلاوة لكوم الفكرية التي أصبحت لبانة مسيخة و ترديدها أصبح لا معنى له حقيقة من سهولة قولها دون أدنى إدراك لما تعنيه عملياتيا. فيا رعاك الله فكرة أن يكون هنالك نظام إداري يعمل و يقوم بعمله بشكل يومي راتب و دؤوب مسألة تبدو بسيطة (و مملة) لكنها في غاية التعقيد، تأمل في عمل البلديات في نظافة الشوارع و حمل الاوساخ و تجميعها و معالجة المخلفات والتأكد من وصول مياه صالحة للشرب في مساكن الناس و أماكن عملهم و إمدادات كهرباء و شوراع صالحة للحركة و ضامنة للسلامة و فوق كل ذلك معاملة لكل المواطنين بشكل متساوي، تخيل الانظمة التي يجب أن تعمل بشكل متقن لتتم هذه العملية بقدر من الجودة. انا من الموقنين أن لدينا من المشتركات ما يكفي لتخليق هذا المشروع الوطني لنضع لبنات تأسيسية تمكننا من تعريف مشكلاتنا و العمل على مخاطبتها حقيقة و ليس خطابة، فعل هذا يتطلب التعامل مع هذه الحرب كنتيجة و ليس كقدر أو ابتلاء أو حتى أنها استهداف خارجي، نحن من صنعنا واقعنا و نحن من بيده تغييره، فهلا شمرنا السواعد لهزيمة هذه الحرب أولا بقيام تيار مدني عريض يغيث اهلنا المشردين و النازحين و من ثم نفكر في عمليات اعادة البناء والاعمار.