عندما يكتب (بكري الجاك) عن صناعة (حقيقة الوهم) بشأن الدَّولة القومية في السُّودان.. هل لأنه يرفُض الحلول الجذرية؟

0 96

كتب: عادل شالوكا

.

قرأنا مقالاً منشوراً لـ(بكري الجاك) بتاريخ: السبت: 29 يوليو 2023 تحت عنوان: (الدَّولة القومية وصناعة حقيقة الوهم: هل من فُرَص لقيام دولة قومية في السُّودان من رُكام حرب الـ 15 من أبريل؟).

نحن نتَّفِق معه في بعض القضايا النظرية التي طرحها في مقالِه مُقتبساً بعض نظريات علم الاجتماع والفلسفة، ولكن لدينا أيضاً بعض المُلاحظات والنقاشات بشأن ما قدَّم من رؤَى وأطروحات تخُصَّه.

التبست علينا المفاهيم لأن (الحقيقة – والوهم) لا يلتقيان. ربما كان الكاتب يحتاج لتوضيح المفاهيم قبل عرض رؤيتِه – وهذا ما درج عليه الكُتَّاب في (المُقدِّمة) قبل الولوج إلى لُب الموضوع. ولكن ما فهمناه إنه يُريد ان يقول إن (الدولة القومية) مُجرَّد (وهم) في مخيِلة الشعوب المُختلفة – هذا واضح بالطبع – ولكن ربطه للوهم بالحقيقة هو ما لا يُمكِن فهمه في مقاله.

تحدَّث الكاتب عن زيارته لدولة (تركمانستان)، وسرَد العديد من القِصص والمُشاهدات التي مرَّ بها وكيفية افتخارِهم بتاريخهم ومُحاولتهم بناء دولة قومية توحِّدهم منذ غزوات المنغوليين المُتكرِّرة – مروراً بالدولة العثمانية – ثم أخيراً الغزو الروسي في العام 1887 الذي انتهَى بهزيمة (التركمان)، وبعد ذلك الثورة البلشفية في العام 1917.

تحدَّث عن اندثار اللغة في (تركمانستان) وغير ذلك من حديث – لن نُنَاقِش هذا لأننا ربما عُدنا إليه مرة أخرة – ولكن نُريد هنا أن نُناقُش بعض ما ورد في المقال عبر المحاوِر التالية، والتي وردت في مقاله:

احتكار العُنف:
احتكرت الأنظمة السِّياسية في السُّودان العُنف ولكن ماذا فعلت به؟ فقد كرَّسته لصالح الحفاظ على الوضعيات التاريخية المشوَّهة والانفراد بالسُلطة والثروة، فكانت حملات الإبادة والقتل الجماعي على أساس الهوية وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها المؤسَّسة العسكرية التي تُنفِّذ سياسات الدَّولة بالطبع بأنظمتها المُختلفة التي تعاقبت على حكم البلاد، فلماذا ندعو لاحتكار العنف لصالح الدولة؟ ربما تكون الحالة الراهنة مُبرِّراً لذلك، ولكنها لن تُعالج المُشكلة السُّودانية، والدولة السُّودانية التي نُريد لها أن تحتكِر العُنف هي التي صنعت (الدعم السريع) لأسباب معلومة لن نتحدَّث عنها حالياً.

العقد الاجتماعي:
تحدَّث (بكري الجاك) عن إن الدَّولة السُّودانية مرَّت بثلاثة مراحل حسب النظريات الاجتماعية:

(1/ نظرية دولة العُنف 2/ نظرية التطوُّر التاريخي، 3/ ونظرية التعاقُّد الاجتماعي).

وقدَّم نموذجاً لدولة الصين التي قامت على العُنف وظلَّت موحَّدة بعد ذلك.

ولعل هذا ينطبِق على النموذج السُّوداني، ولذلك نرفُض احتكار الدَّولة السُّودانية للعُنف دون عقد اجتماعي حتى لا تفرض أقلِّية ما رؤَاها على الآخرين.

نحن ننظُر إلى الدَّولة من خلال مصادر مشروعِيتها إذ توجَد ثلاثة أنماط للدُّول من حيث مصدر مشروعِيتها:(1/ دولة العُنف والغلبة 2/ دولة التفويض الإلهي 3/ دولة العِقد الاجتماعي). والسُّودان مرَّ بالتجرُبتين: (1/ العُنف والغلبة 2/ التفويض الإلهي أو “الدَّولة الدِّينية” – التي تقوم على مبدأ “الحاكمية”). وهي التي طُبِّقَت بكل تشوُّهاتِها في السُّودان (1983 – 1985) ثم (1989 – 2019).

السُّودان حتى الآن “تاريخياً” لم يتطوَّر إلى مستوَى الدَّولة، ولم يمر بأي مرحلة فيها تعاقُد اجتماعي، بل على مر التاريخ تشكَّلت ما يسمَّى بـ(الدَّولة السُّودانية) عبر العُنف وفرض الدَّولة الدِّينية (دولة التفويض الإلهي). والمشروعات السِّياسية التي طُرحت كان جُلَّها أحادية الطبع وإقصائية التوجُّه في بنيتها السِّياسية والقانونية (التشريعات).

مُعالجة جذور المشكلة السُّودانية:
كتب (بكري الجاك) مُنتقداً حديث البعض عن (مُعالجة جذور المشكلة السُّودانية) بالطريقة الحالية مؤكِّداً إن المسألة هي – process ولا تتم بهذه الطريقة حيث قال:
(ما يجب أن نفكر فيه ونعمل له على الدوام ما الذي ينقصنا لصناعة حقيقة وهم الدولة القومية؟ وليس بالتصورات المثالية الطهرانية التي يتقول بها البعض هذه الأيام عن “مخاطبة جذور الأزمة” كلازمة وضرورة وما إلى ذلك من خطابات صحيحة في ظاهرها لكنها فطيرة في جوهرها) – انتهى الاقتباس.

نحن نتوقَّف عند وصفِه لـ(مُخاطبة جذور المشكلة السُّودانية) بـ(الفطيرة). ونحن نتساءَل – كيف تكون مُخاطبة جذور الأزمة في السُّودان (فطيرة) – جذور المشكلة السُّودانية معروفة – والكل كذلك يعرِف كيف تشكَّلت وأصبحت أزمة، فبنفس الطريقة التي تشكَّلت بها الأزمة يجب أن تُعالج بها – فمثلاً:

1/ ما يسمَّى بالرعيل الأول لجيل الاستقلال – حدَّدوا ملامح الدولة السُّودانية (عربية إسلامية) وهرولوا بها إلى جامعة الدول العربية، وبشروطها المعروفة (الأسلمة والتعريب) لبقية المناطق في الهامش. وكما يعلم (بكري الجاك) لم يتم ذلك بعقد اجتماعي ولا (بروسيس – process).

كانت قرارات لنُخبة ورثت الحكم من المُستعمرين وقرَّروا بالإنابة عن الشعوب السُّودانية المُختلفة ثقافياً والمُتفاوتة تاريخياً. وحتى (علم الدَّولة) و(النشيد الوطني) لم يتم بمُشاورة (السُّودانيين) كما ذكرنا من قبل – النشيد الوطني (نحن جند الله – جند الوطن) الذي كتبه (أحمد محمد صالح) عام 1955 – وشعار القوات المُسلَّحة (الله – الوطن) لا يُعبِّر عن السُّودانيين. ولقد ردَّ عليهم شاعر الشعب (محجوب شريف) بقوله (لا إنتو جند الله.. ولا جند الوطن). جاء ذلك بعد أن قتلت (القوات المُسلَّحة) ثوار هبَّة سبتمبر 2013 – ولكن قبل ذلك كانت هي (قوات الشعب المُسلَّحة) التي يفتخر بها بعض السُّودانيين وليس جميعهم لأنها لا تُعبِّر عن الجميع. وهذا بالطبع لعدم وجود دولة تُعبِّر عن جميع السودانيين – ويجب أن يكون ذلك مفهوماً.

فما هي الآلية التي تمت بها إجازة (النشيد الوطني – علم السُّودان – شعار القوات المسلحة)؟ علماً بأنه حتى الآن لم تُقام أي انتخابات حقيقية، فكل الانتخابات التي أقيمت في السُّودان كانت إنتخابات (جزئية)، وبالتالي لم تتم حتى الآن أي مُمارسة ديمقراطية حقيقية منذ 1953، ممَّا يعني إنه لا يوجد أي برلمان على مر التاريخ عبَّر عن السُّودانيين بصورة حقيقية. وهذا ينطبق حتى على شعار ما يُسمَّى بالتلفزيون القومي (لا إله إلا الله).

كلها كانت قرارات فوقية تم اتخاذها بواسطة النُخب التي ورثت الحكم من الاستعمار. والجميع يعلم كيف تحصَّلوا على السلطة – يُمكنك مُراجعة مقال: فتحي حسن عثمان “مادبو”، بعنوان: (صراع القوى الاجتماعية في السودان – “حميدتي” ونُخب الوسط والشمال النيلي). كُتب المقال بتاريخ: 30 يوليو 2019. وليس بالضرورة اتفاقنا مع “مادبو” – ولكن في مقاله بعض الحقائق المُهمَّة.

2/ سعت النُخب التي سيطرت على السُلطة في السُّودان لفرض الدولة الدينية والدستور الإسلامي منذ خروج المستعمر في العام 1956 – ولكن دعوتهم هذه وجدت مناخاً أكثر مُلاءَمة عام 1965م، ففي يناير 1967م كوَّنت الحكومة لجنة من الجمعية التأسيسية التي انتخبت حديثاً لوضع مُسودَّة للدَّستور، ولكثرة الاعتراضات علي تشكيلها لم تستطيع أن تنجز شيئاً، وفي سبتمبر 1968م تمَّ تكوين لجنة الدَّستور الجديدة، ثم بدأت الصراعات والمُناورات حول الدَّستور الإسلامي واللجنة التي شُكِّلت لصياغته، وكانت اللجنة قد بدأت في إجازة بعض بنود الدَّستور، فأجازت في اجتماعها السابع بتاريخ 19 ديسمبر 1968 النص الآتي:

((أن الإسلام دين الدَّولة الرَّسمي واللُّغة العربية لُغتِها الرسمية، وأن السُّودان جزء من الكيان العربي الإسلامي..)).!!.

ثم أجازت اللجنة في اجتماعها بتاريخ 10 نوفمبر 1969 المادة (14) التي تقول:

((تسعَى الدَّولة جاهِدة لبث الوعي الدِّيني بين المواطنين، وتعمل على تطهير المُجتمع من الإلحاد، ومن صوَر الفساد كافة، والانحلال الخُلقي))..!!

3/ في سبتمبر 1983 – قرَّر الرئيس (جعفر محمد نميري) تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية – إتَّخذ ذلك بقرار وتم تنفيذ ذلك بدون أي (process) – تفاجأ السُّودانيين بأن أياديهم وأرجلهم يجب أن تُقطع (من خلاف). وتم تطبيق ذلك في فترة لا تتجاوز الأشهر من صدور القرار.

4/ بعد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 30 يونيو 1989 قرَّرت ثورة الإنقاذ الوطني التي تقودها الجبهة الإسلامية القومية حسم مسألة الهوية في السُّودان – جاء ذلك بعد أول اجتماع إستراتيجي عُقد بعد الانقلاب في بداية التسعينات، وكانت المُقررات على النحو التالي:

((إن الثورة قد حسَمت مسألة الهوِّية في السُّودان “الإسلاموعروبية”، وإن الإنقاذ ستسعَى لإرسَاء دعائم “المشروع الحضاري”..)).

وبعد انفصال الجنوب، وبتاريخ 7 ديسمبر 2011، عقدت اللَّجنة الإعلامية لما يُسمَّى بـ”جبهة الدَّستور الإسلامي” – وهى مجموعة الجماعات الإسلامية الأصولية والسلفيين (نفس جماعات عبد الحي يوسف والجزولي)، ومعهم المُتشدِّدين داخل النظام – مؤتمراً صحفياً تنويرياً بقاعة مبنى هيئَة عُلماء السُّودان، تحدَّث فيه عدد من عُلماء “السُلطان” المحسوبين على الحزب الحاكم، ورابطة العُلماء والأئمة والدُعَاة المحسوبين على الجماعات السلفية والمدارس الإسلامية الأصولية، شرحوا فيه تفاصيل مُسودَّة الدَّستور الإسلامي الذي تمت صياغته بواسطة لجنة مُختصة مُكوَّنة من مُمثلين لكافة أطراف الجبهة، وقد تم تسليم المسوَدَّة للرئيس عمر البشير ليكون ما جاء فيها: (هادياً للبلاد في المرحلة المُقبلة من عمر ما يُسمَّي بـ”الجمهورية الثانية” بعد انفصال الجنوب). فهل كان ذلك عبر (process)؟

ما نُريد أن نقوله في هذا المقال إن بناء الدولة السُّودانية القومية لن يتم إلَّا بمُخاطبة جذور المشكلة السُّودانية والتي هي معلومة للجميع ودون ذلك سيكون مصير السُّودان قاتماً – وغالباً سينتهي إلى عدة دويلات، يمكن أن تصل إلى أربعة أو خمس دويلات، وقد لا تعيش في سلام.

يمكننا اتخاذ قرارات مصيرية ومن ثم بعد ذلك نتبع الـ Process بتحويل القرارات عبر الاتفاقيات السياسية إلى دستور دائم للبلاد وتنفيذ القرارات وتطبيق الدستور – لا توجد مشكلة في ذلك.

على مُفكِّري ومثقَّفي السُّودان أن يفيقوا من سُباتِهم العميق ويُفكِّروا بواقعية – انتهى وقت استعراض النظريات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.