النيجر من رمضاء فرنسا إلى نار فاغنر

0 57

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

وجبت الخشية أن يسوقنا تحليل انقلاب النيجر الجاري على أسنة الأقلام إلى الضلال عن طبيعته. فرآه كثير من المحللين وكأن النيجر تستدبر فرنسا والغرب لتتحرر من استعمار جديد لفرنسا أعقب استقلالها في 1960. ففرنسا دون غيرها من أعطى لمصطلح الاستعمار الجديد معنى، فربطت دون غيرها من الدول الاستعمارية الأوروبية مستعمراتها بها. ولا يزال الفرنك عملة مداولاتها المالية، وأقامت قواعد عسكرية فيها مكنتها من تصريف الحكم في تلك المستعمرات الأفريقية بما يضمن مصالحها، ويضمن لها استمرار استغلال ثرواتها بلا وازع.
وليس من هفا إلى التحرر من فرنسا من يُرى مع ذلك مشايعاً لا لروسيا فحسب، بل لشركة “فاغنر” أيضاً دون مفردات روسيا جميعاً، وهي الشركة التي تستدعي تاريخ الاستعمار الأوروبي في القرن الـ19 بحذافيره، فقد سبق للأوروبيين أن استخدموا على أفريقيا، التي اقتسموا أرضها بينهم، شركات عرفت بشركات الامتياز ما بين 1885 و1920.
قامت هذه الشركات على عقيدة أن الأولى بالاستثمار في أفريقيا هي الشركات الخاصة، لا الحكومة التي لا تملك حتى القدرة على الإنفاق على إدارة المستعمرة. فكان المستعمر الأوروبي يقطع الشركة منها أرضاً “حدادي مدادي” لا تستثمر فيها فحسب، بل وتديرها من الألف إلى الياء أيضاً.
واشتهرت هذه الشركات بالشره والفظاظة مما تجسد في الكونغو الذي كان مستعمرة خاصة بليوبولد ملك بلجيكا. واستثار عنف شركة ليوبولد على الأفارقة ثائرة أوربا نفسها عليه. وخلد جشعه وإيذاءه للأفارقة الكاتب الأميركي المناهض للاستعمار مارك توين في كتابه “نجوى ليوبولد” (1905) سخر فيه منه سخرية شنعاء، كما خلدت ظلمه للأفارقة رواية “ظلام في رابعة النهار” لجوزيف كونراد (1899)، والتي عمل راويها في إحدى تلك الشركات، وغالباً في الكونغو، وكشف عن فحشها، وبنى منتج فيلم “القيامة الآن” (1979) على الرواية ليجعل فيتنام في حربها مع أميركا محل الكونغو في الرواية الأصل. ونجحت أوروبا بتلك الإنسانية النبيلة في تخليص الكونغو من براثن ليوبولد لتجعلها في يد بلجيكيا. فسيرة جشع “فاغنر” في دولة أفريقيا الوسطى وظلمها البواح فائح نتن طبق الأصل من شركات الامتياز في أول عهد الاستعمار الفرنسي. ومن قصد “فاغنر” يطلب عونها في تحريره من الاستعمار الفرنسي الجديد كالمستجير من الرمضاء بالنار.
الأقرب لفهم انقلاب النيجر أن نراه في سياق أزمة الحكم لصفوة أفريقية لم تحسنه بغض النظر أن جاءته ترفل في ثياب الديمقراطية أو في البزة العسكرية. وكان عنوان فشلها في أنها لم تعد النظر في المستعمرة التي جرى تصميمها لرعايا لتصبح بلداً لمواطنين. فورثتها كما هي صفوات من أقاليم بذاتها من المستعمرة (مثل صفوة جنوب مالي والنيجر دون شمالها) لا تريد لشرع الاستعمار تبديلاً.
وصادف ميلاد الدول المستقلة في أفريقيا اندلاع الحرب الباردة التي كانت بازاراً مشهوداً للاصطفاف إما إلى أميركا أو الاتحاد السوفياتي. فمتى انحزت لطرف منها أمنت. وكانت النتيجة أن ساسة الحكم في العالم الثالث قاطبة استسهلوا تبعة الحكم في بيئة الحرب الباردة، لأن انتماءهم لهذا المعسكر، أو ذاك، (والترحل بينهما في الوقت المناسب) قد أعفاهم من شاغل الحكم كمساءلة أمام شعوبهم. فلم يهتموا عادة بضبط الميزانية لأن القطب من الحرب الباردة الذي انتمى إليه الحاكم سيسعفه على كل حال، كما لم يتوقفوا عادة عن المساومة في الممارسة السياسة. فما ارتفع صوت بالشكوى من التهميش من إقليم في مثل شمال مالي والنيجر أو في جنوب السودان، إلا وحشدوا الجيش لقمعه. وكفيله في الحرب الباردة حري بتسليحه وتشوينه لها وتغطية حرجه بالتضامن معه في محافل العالم.

ولهذا قال رونالد أوليفر، من باكورة المؤرخين لأفريقيا، إن ميلاد أفريقيا المستقلة في مناخ صراع أميركا والاتحاد السوفياتي كان سيكون خيراً وبركة لو لم ينحرفا عن عقد تأسيسهما إلى تحشيد الأتباع بأي ثمن. فقام البلدان، في قوله، على عقائد في الاستقلال والحرية كانت مما ستنتفع منه المستعمرات الأوروبية السابقة لو رعيا تلك العقائد باستنهاضها لا تجييشها من ورائهما في المنشط والمكره.
فالحرب الباردة لم تكن مجرد توازن للقوى بين قطبيها أميركا والاتحاد السوفياتي فحسب، بل عملية تحلل وتشويه وفظاظة طبعت بناء الدولة – الأمة في دول العالم الثالث. وهو بناء أخرق يريد إعادة اختراع تلك الحرب طلباً للكفيل.
تحول النيجر، وقبلها مالي وبوركينا فاسو، من جانب فرنسا إلى جانب “فاغنر” وروسيا هي إعادة إنتاج للحرب الباردة وإن روجت لها الصفوات الحاكمة كانعتاق من ربقة فرنسا التاريخية. ففي موقف مماثل تضاربت التفسيرات لزيارة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير لروسيا في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017. فمن قائل من معارضيه إنها من تخليط البشير مما تعود منه أنصاره وغير أنصاره. ومن قائل إنها خروج من معسكر أميركا والسعودية والإمارات إلى معسكر روسيا وإيران وسوريا، ولكن ما غاب عن المحللين أن البشير بزيارته تلك كان كمن يعيد اختراع الحرب الباردة التي وضعت أوزارها في 1990 بتحلل الاتحاد السوفياتي.
وبلغ نظام البشير من انكشاف الظهر في عالم القطبية الواحدة حد ترحيبه بانقلاب أغسطس 1991 الذي أراد به سوفياتيون مستميتون استرداد دولتهم بإزالة ميخائيل غورباتشوف المصفي القانوني للاتحاد السوفياتي. ولن تحجب إسلامية نظام البشير المعلنة بجسارة حقيقة أنه مولود شرعي لعالم القطبين، فإسلاميته نفسها اجتهاد محكوم بحقائق ذلك العالم وتصاريفه.
قاد فشل هذه الصفوة العسكرية والمدنية في إعادة التفاوض بالقسط مع هوامشها الإثنية والدينية والجغرافية إلى حكومات لم تعد تملك زمام الدفاع، لا عن نفسها ولا عن أرضها. واحتاجت، من فرط تطاول حروبها السدى دون إعادة التفاوض في المستعمرة لتصير وطناً، إلى كفيل يرعاها لا من بعيد فحسب، بل أن يخوض أيضاً معاركها ضد أقسام من شعبها بجند منه باسم محاربة الإرهاب. فخلاف حكومات الساحل في النيجر ومالي وبوركينا فاسو ليست في التحرر من فرنسا، بل لأن فرنسا لم تحسن “استعمارهم” بقتال بني وطنهم لهم.
ولنأخذ حالة دولة مالي. لم يتفق صفوة مالي، التي جاءت غالباً من جنوب البلاد، أن تتصالح مع الطوارق والعرب في شمالها (ثلاثة ملايين) على طول احتجاج الأخيرين على ضعة حالهم. ولم تفِ بالعهد معهم حتى حين تواثقت معهم بعد طول حروب بينهما على اللامركزية في اتفاقية 1999.
في ملابسات سقوط معمر القذافي في أغسطس (آب) 2011 تقوى العرب والطوارق ممن استخدمهم القذافي في قواته الخاصة وتوافر السلاح بأيديهم، فشنوا الحرب على الحكومة واحتلوا إقليمهم، كيدال وتمبكتو، وأعلنوا دولتهم باسم الأزواد للعالم. وبدأوا الزحف خارجها نحو العاصمة باماكو. فاستنجدت مالي بفرنسا التي اضطرت، حيال تقدم المسلحين الطوارق والعرب تقدماً كبدوا فيه جيش مالي الهزائم، إلى إنزال قوات برية بعد أن كانت اكتفت بالدعم اللوجيستي والاستخباراتي والإسناد الجوي أول مرة، بل عبأت فرنسا الأمم المتحدة لتصدر القرار 2085 في 20 ديسمبر (كانون الأول) 2013 بتكوين قوة دولية تستعيد الشمال لحكومة مالي. واستعادت مالي الشمال بفضل التدخل الفرنسي، حتى إن الماليين اصطفوا في العام نفسه لتحية الجنود الفرنسيين عرفاناً بدورهم في تأمين وحدة بلدهم. ثم تدهورت العلاقات بين مالي وفرنسا بعد انقلاب في أغسطس 2020. ودار الخلاف حول دور باريس في المجهود الحربي ضد المسلحين المسلمين في شمال البلاد. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد طلب تخفيض القوات الفرنسية إلى النصف في ملابسات قال فيها إنه سيصعب على بلاده القتال إلى جانب مالي ما دامت لا تطلعهم على استراتيجيتها وأغراضها ليتهم رئيس وزراء مالي فرنسا بأنها تركتهم لمصائرهم. واستفز ذلك وزير الحربية الفرنسية الذي قال لماكرون إنه إنما يمسح رجليه في دماء الجنود الفرنسيين عائداً إلى أيام في 2013 حين كانت باماكو العاصمة قاب قوسين أو أدنى من السقوط في يد ثوار الأزواد لولا التدخل الفرنسي.
طريق التحرر من بنية الاستعمار قديمه وجديده في رأي الصفوة الأفريقية ليس بإشعال نار حرب باردة فحسب، بل في طلبها في أكثر صورها وحشية أيضاً: أي بدخول الدولة العظمى الكفيل عسكرياً لصالح العميل مثل ما حدث مع أميركا في فيتنام والاتحاد السوفياتي في أفغانستان. فهذه هي الهيئة التي كان يريد حكام النيجر لفرنسا الدخول بها معهم للقضاء على الحركات المسلحة الناهضة في وجههم. فإن لم تفعل فرنسا ذلك لأي سبب كان مُسخت دولة استعمارية وجب تفكيك قبضتها على النيجر وغير النيجر.
وليس من غرضنا نفي صفة الاستعمارية عن فرنسا، ولكن إذا أضاع المرء شيئاً في موضع معتم فمن قلة العقل البحث عنه تحت عمود نور. وفسد حكم صفوات أفريقيا في عتمة إعادة التفاوض حول المستعمرة لتصير داراً لمواطنين لا رعايا سمت صحافة مالي متمردي الشمال منهم “ذئاب الصحراء”. فإذا أرادت النيجر البحث عن علة الفساد هذا تحت ضوء مصباح الشارع – أي فرنسا – كان ذلك بلا طائل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.