العدل والمساواة: الانقسام مهنتي
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
وقع خلال الأسابيع الماضية انقسام مؤسف في “حركة العدل والمساواة” ذات المنشأ الدرافوري، فخرج رموز تاريخيون لها من أهل السابقة فيها على رئيسها جبريل إبراهيم الذي خلف أخاه خليل إبراهيم على زعامتها منذ 2012 بعد اغتياله في 2011.
وخرج ضمن هذه المجموعة من الأبكار سليمان صندل أمينها السياسي وأمين الترتيبات الأمنية، والمفاوض الرئيس عن الحركة أحمد تقد وأمين تنظيم الحركة في ولاية كردفان آدم حسن حسابو ونائب الأمين للتنظيم والإدارة محمد حسن شرف، فاجتمعوا كفاحاً في مؤتمر استثنائي في أديس أبابا في الـ 30 من أغسطس (آب) الماضي وخلعوا جبريل عن الرئاسة وولوها لصندل.
ليس الانشقاق طارئاً على العدل والمساواة ولا الحركة المنافسة لها وهي حركة تحرير السودان، ففي 2020 أحصت قائمة على الشبكة 84 حركة متولدة من الحركتين أو مستقلة، فتجد اسم الحركة الأم على القائمة مستردفاً بمثل “القيادة التصحيحية” أو “جناح السلام” أو حتى “أصحاب الحق الأصل”، وكان نصيب العدل والمساواة من هذا التشظي الأميبي 13 حركة.
وعرض ياسر محجوب الحسين لبعض انشقاقاتها البارزة، فخرجت عليها في مارس (آذار) 2004 جماعة باسم الحركة الوطنية للإصلاح والتنمية، وما لبثت هذه أن انقسمت في 2006 لتخرج منها جماعة باسم حركة العدل والمساواة جناح السلام، وتفرقت هي الأخرى بخروج جماعة منها باسم حركة العدل والمساواة الديمقراطية في 2007، ومن رحم العدل والمساواة خرجت أيضاً مجموعة خريطة الطريق بقيادة أحد أبرز قادتها وهو إدريس بحر أبو قردة الذي تصالح مع نظام الإنقاذ بعد مؤتمر الدوحة للسلام في 2011.
كما تكون فصيل آخر تحت اسم حركة العدل والمساواة التصحيحية عام 2011، وخرج منه في نهاية 2012 فصيل محمد أبشر الذي سنعرض لمتاعبه مع التنظيم الأم قريباً، وكذلك خرجت من العدل والمساواة حركة تحرير السودان- الإرادة الحرة، وترافق مع ذلك خروج جماعات عرقية أو إثنية ضيقاً بغلبة قيادات الزغاوة، وفرع الكوبي منهم على الأخص، على الحركة وتمرداً على قولهم عن اضطهادهم فيها، فكادرها من شعب الميدوب الذين يقطنون شمال دارفور هم أبرز من خرج على الحركة من هذا الباب، بل خرج عليها من الزغاوة أنفسهم من لم ينتسب للكوبي ونفر من شعب الفور وجماعات من عرب دارفور.
رد رئيس تحرير جريدة “التيار” عثمان ميرغني انقسام جناح صندل في العدل والمساواة وغيرها من حركات دارفور المسلحة إلى عادة “الخروج على التنظيم” بتنظيم آخر حلاً لما ينشأ من خلاف بين كوادره، فقال إن هذه الحركات خلت من آليات إدارة الخلاف، إذ تطوي الجماعة التي اعتقدت في غير ما ترى القيادة خيامها وترحل وتسمى هذه الهجرة عن موضع الشقاق في أدبيات السودان بـ”القنجرة” وهي عن ضعف الحيلة والعقل في العربية الفصيحة، وأكثر قرى السودان مما تكون نتيجة مثل هذه الخصومة بين الأهل، فتغضب جماعة على أهلها فتترحل عنها إلى أرض الله الواسعة.
ولم تكن كل تلك “القنجرات” من حركة العدل والمساواة هينة لما صحبها من عنف بدني وفكري على المغادرين، فتعرض كادر الميدوب لما عرف بـ”المحاكمات الصورية” من قبل قيادة العدل والمساواة فأزهدتهم فيها، وخضب العنف، بل الدم، خصومة جناح محمد أبشر لقيادة العدل والمساواة، إذ كان محمد أبشر اختار الصلح مع نظام الإنقاذ في 2013 على خلاف موقف الحركة، وخرجت وفود من جناحه تذيع خبر صلحها مع الحكومة وعائده على الدارفوريين، فوقع أبشر وأركو ضحية، ذراعه اليمنى، قتيلين في كمين غامض عند حدود السودان وتشاد، وامتد أصبع الاتهام للعدل والمساواة بالطبع وتقوى الاتهام بعد اعتقال الحركة لنحو 30 من جناح أبشر أبرزهم إبراهيم موسى زريبة والطيب خميس، وفجر أسرهم حملة للتضامن معهم واسعة تدخلت فيها بريطانيا لأن أحد الأسرى حمل جوازاً بريطانياً.
نفى جناح صندل من جهته أن يكون ما قاموا به انشقاقاً، فاجتمعوا في مؤتمرهم الاستثنائي، في قولهم، لأن جبريل، المنتهية ولايته الثانية على الحركة في 2020، يحول دون عقد مؤتمرها العام ويطمع في ولاية ثالثة لا يسمح بها دستورها، وردّ جناح جبريل على هذه الحجة بأن أمر المؤتمر الاستثنائي ليس مرسلاً، فثمة قواعد في نظم الحركة تحكم الدعوة إليه.
تركز النزاع المعلن بين الجناحين في اختلاف موقفيهما حيال الحرب الدائرة في السودان، فتفجر الخلاف في قول جناح صندل بسبب جنوح جبريل لجانب الجيش في الحرب ضارباً بعرض الحائط موقف الحركة بأن تقف على الحياد لا إلى هذا ولا إلى ذاك، وهو مأخذ يصب في سياق تظلمهم العام من انفراد جبريل بالقرار في الحركة. ومن وقائع هذا الانفراد اشتراكه في انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021 الذي أطاح الحكومة الانتقالية لقوى الحرية والتغيير، وردوا هذا إلى أن جبريل لا يزال شديد الارتباط بالحركة الإسلامية. وكانت شرارة هذا الخلاف تطايرت أول ما تطايرت عند فصل جبريل لقادة الانقسام لأنهم اجتمعوا في تشاد بعبدالرحيم دقلو، نائب قائد قوات “الدعم السريع”، في يونيو (حزيران) الماضي وامتنعوا عن تقديم تقرير عن ملابسات الاجتماع والمبحوث فيه بعد طلب جبريل هذا منهم، ويصر جناح صندل أن ذلك الاجتماع لم يحدث.
نظر الصحافي والمشارك في التفاوض الباكر في الشأن الدارفوري محمد محمد خير والإعلامي محمد الأسباط إلى بواعث خلافهما في ما وراء ما يتحجج به طرفا نزاع العدل والمساواة. فقالا إن دوافع هذه النجوم الزاهرة في العدل والمساواة ربما كانت في أنهم لم يحظوا بالرتبة الرفيعة بعد اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر 2020) التي استحقوها بعد هذه الخدمة الطويلة للحركة. فقال الأسباط إن عدداً من المنشقين منوا أنفسهم بمناصب سياسية في حكومة ما بعد اتفاق جوبا التي حثت الوظائف حثواً للحركات الموقعة على هذا الاتفاق. وفهم الأسباط أن شكواهم من احتكار جبريل للقرار من سدة الرئاسة من زاوية استبعادهم عن ثمار الاتفاق. وهذا ربما ما عنوه بتحميلهم جبريل مسؤولية إبعاد قيادات تاريخية للحركة للاستئثار بالمكاسب التي تحققت بفضل الاتفاق، ومنح السلطة لبعض المقربين منه.
وبالطبع لا يستغرب المرء مثل هذا التظلم من أي طاقم قيادي في أي حركة جاءتها الوظيفة العامة ضمن أشياء أخرى بعد نضال طويل. ولا يستغربه المرء، بخاصة في حركات دارفور المسلحة. فسفر العدل والمساواة الأسود المسمى “الكتاب الأسود” الذي نشرته في 1999 تمهيداً لقيامها حاشد بدقائق مذهلة عن اختلال تقسيم الوظيفة العامة تحت نظام الإنقاذ وكل نظم ما بعد 56 التي سبقته في الخرطوم حشداً غلب به الشاغل بهذه الوظيفة على كل شاغل درافوري آخر. فأحصوا الوظائف العامة وجاؤوا بأسماء شاغليها من أبناء النيل الأوسط (الجلابة) وولاياتهم لبيان حظ دارفور المبخوس منها. ولخليل إبراهيم، مؤسس العدل والمساواة الذي كان ضمن الحلقة التي حررت الكتاب، رأي باهر عنه فقال إنه دوى كالصاعقة في أذن نظام الإنقاذ وذاع ذيوعاً استثنائياً من بعد الكتب السماوية.
ولا يستغرب أمر التظلم من فوت الوظيفة كما رأينا في حالة دارفور لأن الشهوة لهذه الوظيفة غلبت في ملابسات الحرب الأهلية المتطاولة حتى اصطنع لها ألكس دي وال، الباحث المخضرم في الشأن السوداني، مصطلح “السوق السياسية”، ولن تجد تعريفاً لهذه السوق أفضل مما جاء عند يوسف عزت الماهري في مايو (أيار) 2008 قبل أن يصبح مستشار “الدعم السريع” في يومنا هذا، فكان الماهري استاء من تفرق الحركات المسلحة في غيبة مشروع جامع لها فلا يفرط بعضها في سانحة مفاوضة نظام الإنقاذ في توقيتها المناسب وعقد الصفقة الرابحة لها معه. وغالباً ما كانت الوظيفة العامة مبلغ علمها وحظها. فقال الماهري إن نظام الإنقاذ نجح في تحويل حركات دارفور من حركات ثورية مقاتلة إلى حركات مطلبية تنتهي بانتهاء العرض (بالوظيفة ثم أشياء أخرى لا تحدث). وقال بليغاً إن حركات دارفور ستبقى “معزومة على موائد وليمتها” إذا لم تتواثق عند مشروع وعزيمة وإرادة.
سنأخذ برأي جماعة صندل من أن الموقف من الحرب هي عقدة خلافهم مع رئيسهم، وهذا السبب مستغرب أكثر ربما لا من حركة هي عضو مؤسس في الحرب السودانية منذ 2000 فحسب، بل هي مما ينتظر الناس منها إرادة متماسكة، بغض النظر عن الطرف الذي انحازت إليه أو حيدت نفسها عنه، في حرب تدور في إقليمها. وضحايا هذه الحرب الأشد وبالاً هم القوم الأفارقة مثل المساليت الذين خرجت الحركة لإحقاق حقهم في سودان ما بعد 56، وذاق المساليت الأمرين من الجنجويد و”الدعم السريع” شفق عليهم العالم منها طوال العقدين الماضيين وفي يومنا الراهن. فكيف يثور خلاف حول حرب كهذه حتى يتسع على الراتق بين مسلحين، الحرب مهنتهم وقضيتهم. ووضع عثمان ميرغني يده على السبب في هذا الخلاف السدى في العدل والمساواة بقوله إن السياسة فيها لم تستقل بكيان عن الحرب لتأتمر الأخيرة بأمرها. فلم يكد يستقيل خليل إبراهيم من وظيفته القيادية في نظام الإنقاذ في 1999 حتى شرع مباشرة في إعداد الجيش العسكري لحركته المناهضة للإنقاذ. فلم يعرض له أبداً إن كان سبيله الرحب إلى هدفه هو المقاومة السلمية بحزب سياسي لا جيش التحرير. وقال كاتب آخر في تفسير انحجاب خليل عن التفكير في غير الحرب سبيلاً لقضيته أن ذلك راجع إلى خلفيته في الحركة الإسلامية وجهادها في جنوب السودان الذي ينعقد فيه الإيمان بالقتال.
كان أمليكار كابرال الذي قاد حرب العصابات ضد البرتغاليين في غينيا بيساو في الستينيات سبق إلى التحذير من مثل خليل، أن يتحولوا من سياسيين مسلحين إلى عصب مسلحة، ودارفور اليوم تحتاج إلى السياسة بأكثر من الحرب خاضتها أو حادت عنها، وإلى وحدة الإرادة لا التفرق.