في العيد التاسع والخمسين لثورة أكتوبر 1965..
النور حمد في الأبيض وما بيعرف اب صفية: كان التطهير في ثورة أكتوبر عقيدة جمهورية بأكثر منها شيوعية
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
(قال الأستاذ محمود محمد طه الأذى الجانا من تالا الأمين داؤود (عالم تعقب الجمهوريين وأفتى بردتهم) كتير. والأذى الذي جاء للشيوعيين من النور حمد كثير جداً)
لو صار اليوم العاقب لنكسة الفترة الانتقالية يوماً للتغابن لصار أمرنا ضغثاً على إبالة، أي بلية على أخرى. فلم نكتف فيه بالمصيبة فحسب، بل هِلنا عليها إساءة كما تقول الفرنجة. والأهدى هنا أن يكون اليوم العاقب هو يوم للنفس اللوامة غير ملومة. وهو ما تعارفنا عليه مؤخراً باسم الشفافية، أي أن نطلع أنفسنا بأنفسنا على خبايا الخطأ في الأداء طمعاً في الإحسان في القادم.
لا أعرف هيئتين في الثورة رجمتهما الثورة المضادة بحممها مثل لجنة إزالة التمكين ولجان المقاومة. وكانت الهيئتان بالحق من عزائم الثورة الصريحة كما لا تجدها في غيرهما. وبلغ من حملة الثورة المضادة على لجنة التمكين حداً أزهدت حتى الثوريين فيها و”لقوليهم دريبات”، في عبارة لوجدي صالح في مقام آخر، بعيدة عنها كما سنبين ونحن في حديث اليوم العاقب.
وكان أمكر ما تفتق عنه ذهن الثورة المضادة استعادتها للتطهير في ثورة أكتوبر “الشيوعية”، وبعد انقلاب مايو “الشيوعي”، والتأميم والمصادرة بعد انقلاب مايو “الشيوعي” للحجاج بأن لجنة إزالة التمكين هي كل ذلك في عبارة واحدة. وهذا حشف وسوء كيل قديم من الثورة المضادة واظبت عليه عبر عقود حتى صارت روايتها عن تلك الوقائع هي التاريخ المعتمد لها بلا منافس.
والأدهى ليس صمت أهل تلك الوقائع عن الدفع بسرديتهم (وليس بالضرورة صحتها) فحسب، بل تصديق بعضنا تلك الرواية وحيدة الجانب من الثورة المضادة وإذاعتها على الملأ.
فوجدت مثلاً أن النور حمد يروج لفساد ممارسة التطهير في أكتوبر في منازلته للشيوعيين في ذات وقت إذاعتها من جهة الثورة المضادة لإفحام لجنة إزالة التمكين. فوصف النور حزبنا الشيوعي بالتطرف في أدائه خلال ثورة أكتوبر 1964 وبعدها. ومن وجوه ذلك التطرف في زعمه إفراطنا في التطهير الذي مارسناه من موقع سيطرتنا على جبهة الهيئات المهنية والنقابية (السوفيات) التي قادت الثورة.
وراجعت النور في مقال قديم عن عقيدته هذه بإحالته إلى فصل عن التطهير في ثورة أكتوبر في كتابي “ربيع ثورة أكتوبر” (٢٠١٣). وجاء فيه أن ذلك التطهير لم يكن عملاً شيوعياً متطرفاً، أو طائشاً كما وصفه. ولو صح طيشنا فيه لانطبق الوصف على الإخوان المسلمين وحزب الأمة والحزب الجمهوري. فقال محمد صالح عمر، الوزير عن الإخوان المسلمين في حكومة أكتوبر الأولى، إنهم ليسوا مع التطهير مئة بالمئة فحسب، بل هم من طالبوا به في بيان الإخوان المسلمين الأول بعد الثورة. وزاد بأن إجراءات التطهير المتبعة بواسطة الحكومة صحيحة. وقال حزب الأمة، من الجانب الآخر، إنه مع التطهير شريطة ألا يحيق الظلم بأي إنسان (الأيام 5 يناير 1965). وهي شفقة من الأمة في غير مكانها لأن التطهير تم بواسطة لجان تحقيق تعمل في رابعة النهار، وترفع ما تتوصل إليه لمجلس الوزراء الذي لحزب الأمة ممثل فيه مع الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي والإخوان المسلمين وجبهة الجنوب وسانو.
أردت أن أنأى في أحاديث اليوم العاقب عن المآخذ على أفراد. ولكن النور حمد عندي مؤسسة في الكتابة والعقيدة معاً. فهو كاتب راتب بما يجعله منبراً للمساءلة. واستحق المؤاخذة خاصة وهو يذيع عن تطهير ثورة أكتوبر ما لا علم له به في نفس الوقت الذي نفثت الثورة المضادة سرديتها على لجنة إزالة التمكين لأنها ستزر وزر ثورة أكتوبر في التطهير. فكيف للناس الاطمئنان لمبدأ إزالة التمكين وهو يجر في أثره آثام تطهير أكتوبر كما روجت لها الثورة المضادة تاريخياً وتبعها النور بغير إحسان؟ ونقول عجولين إن النور لم يعتقد في ثورة أكتوبر نفسها كما هو معروف حتى يحاسب غيره على تطرفه. وكان قد خلص في مقال في ذكراها الخمسين إلى أن حقيقة أمرها أقرب للفانتازيا الصفوية المستلة من بطون الكتب بأكثر من أنها تعبير عن حاجة ملحة أفرزها الواقع. فالثورة كلها عنده تطرف والباقي تفاصيل.
أما ما استغربت له حقاً أن النور الجمهوري غير مطلع على أن حركته كانت صوتاً جهيراً عند مبدأ التطهير في ثورة أكتوبر. فلا أعرف حماسة للتطهير أشفى من حماسة الأستاذ محمود محمد طه له، ولا يقيناً مثله أن تطهير دولة المستبدين جراحة لا غنى عنها. فقال في حديث له:
أنا متأكد من حاجة أنو حيجي وكت للشعب ليحاسب الناس. وما تتصورو أنو مسألة التطهير في ثورة أكتوبر كانت عبث. ما تمت. لكن كانت تمني الشعب. بتجي المرحلة البيكون التطهير فيها نافذ لأن الشعب في الوكت داك بيكون أقوى مما كان هسع. الحاجة اللي خلت مسألة التطهير ماعت لأن الناس المطهرين قدروا يستولو على السلطة لذلك موعو التطهير لكن بتجي مرحلة تانية الناس المطهرين حيتطهرو تماماً والناس المحاسبين راح يحاسبو تماماً.
وليس النور ملزماً بالضرورة أن يتطابق مع رأى حركته فيما مضى. ولكن، متى أسقطه، فليسقطه بإيقاع يرعى فيه أن التطهير الذي يعقب الثورات في مثل لجنة إزالة التمكين ثقافة قبل أن يكون إجراءات. وبالنتيجة لم يضف النور لهذه الثقافة التي أحسن الأستاذ الشهيد عرضها وتعقب الشيوعيين بجريرة الإجراءات. وظلمنا.
وجاء الوقت الذي تنبأ به الشهيد أن سيكون الشعب به أقوى والردة مستحيلة: “الناس المطهرين حيتطهرو تماماً والناس المحاسبين راح يتحاسبو تماماً”. ولكن سردية الثورة المضادة هي التي سادت وأزهدت الثورة في لجنة إزالة التمكين التي هي عزيمتها المفردة. والنتيجة: الناس المطهرين قدرو يستولو على السلطة لذلك موعو التطهير. لا بل قضى نحبه على يدهم.