عن السودان الذي كان

0 160

كتب: جعفر عباس

.

عند ممارستنا لهواية البكاء على الأطلال و”الزمن الجميل”، نتذكر يوم كانت شوارع العاصمة تغسل بالصابون، وعندما كان رجل مثل رئيس الوزراء الراحل إسماعيل الأزهري، يعود من الرحلات الخارجية ويعيد ما تبقى معه من نثريات الى خزينة الدولة.
وحقيقة الأمر هو أن جميع موظفي الدولة، من قاع السلم الإداري الى أعلاه كانوا على درجة عالية من الأمانة والانضباط، بدرجة أنه إذا دخل قطار محطة قبل الموعد المحدد كانت تسجل ضده “مخالفة”، ولم تكن القطارات تتأخر عن مواعيد الوصول والمغادرة إلا لأسباب قاهرة، وفي كوستي كان سكان الحلة الجديدة والرديف يصلُّون العصر مع صفارة قطار مشترك الأبيض، عندما يأتي بمحاذاة دار الرياضة في طريقه من محطة “الوساع”، وكان بقطارات الركاب عربات “نوم” وأخرى “درجة أولى” جميلة الأثاث والفرش، وكان من حق المسافرين فيها الحصول على وجبات فاخرة وهم على مقاعدهم، او الانتقال الى عربة الطعام (السناطور)، المزودة بطاولات وكراسي جميلة وفيها من الطعام كل ما تشتهيه النفس: كبدة وكلاوي وبيض ولحوم حمراء وبيضاء (وطبعا العدس، والكل يوم معانا= الفول).
كان الانضباط واحترام المواعيد هو ميسم الخدمة العامة، وفي بعض المواقع كانت هناك وظيفة “تايم كيبر time keeper”، يسجل مواعيد حضور وانصراف العمال والموظفين، حتى ساعي البريد الذي كان يتولى توزيع الرسائل والبرقيات على البيوت والمكاتب كان يؤدي عمله من على دراجة في مواعيد معلومة، وكان كل بيت في كل مدينة يحمل رقما ملحقا برقم المربوع، معلوما لدى سلطات الحكم المحلي، وكانت هناك زائرات صحيات يتفقدن نظافة البيوت ويلزمن كل بيت بتنظيف حصته من الشارع العام، ولم يكن مسموحا تحديد موقع المطبخ والحمام في أي بيت إلا بموافقة ضابط صحة، وكانت جميع المباني في جميع أنحاء السودان تخضع للرش بمادة اسمها الجماكسين لمكافحة الحشرات والآفات، وحتى في بلدة بعيدة عن المركز مثل بدين كان هناك “عامل ناموس” مقيم يتولى رش المياه الراكدة بمواد تقتل بويضات الناموس.
كان هناك في كل محطة وسطى في كل مدينة كبيرة، كشك هاتف به شخص موجود على مدار الساعة لتلقي الطلبات لسيارات التاكسي، وكانت الأجرة معلومة ومحددة من والى كل الوجهات، وفي العاصمة المثلثة كانت بصات مرسيدس تعمل على الشوارع الرئيسية الطولية، في مواعيد معلومة حتى ال11 ليلا، بينما في الخرطوم بحري مثلا كانت هناك حافلات من عهد عاد وإرم ذات العماد اسمها “الكندا”، وهي من مخلفات الحرب العالمية الثانية، تعمل بطول شارع المزاد، وكانت سرعة الكندا نحو 15 كيلومتر في الساعة، ولأن سائقيها كانوا يعرفون جميع الركاب بالاسم، فقد كان من المعتاد ان يقفوا بها في مواقع معينة في انتظار خروج فلانة من بيتها لتأتي على “أقل من مهلها” للركوب، ولهذا كانت رحلة الكندا من مكتب البريد الى نهاية حي المزاد تستغرق نحو 40 دقيقة، بينما تستغرق 20 دقيقة سيرا على الأقدام، ولهذا كان معظم ركابها من النساء المتقدمات في السن في رحلاتهن من والى السوق، وكان ذلك زمان يتم فيه طبخ كل وجبة في موعد أكلها (وليس كما هو الحال اليوم: يتم إخراج مواد مجمدة من الثلاجة لطبخ كمية كبيرة من الطعام، ثم تجميد معظمها لجولات أخرى).
ونواصل ان شاء الكريم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.