إصلاح القطاع العسكري ووقف الحرب في السودان
كتب: د. الشفيع خضر سعيد
.
بدأنا قبل عدة أسابيع سلسلة من المقالات حول الرؤية الممكنة لوقف الحرب في السودان. ولكن اضطررنا لقطع السلسلة بالمقالين السابقين، حيث تناول في المقال الأول محاولات زراعة فكرة تقسيم السودان في أذهان السودانيين عبر أساليب ناعمة تسري كالمخدر، حتى تتقبل فكرة التقسيم بأريحية ورضا، وناقشنا ضرورة مقاومة هذه الزراعة الخبيثة. أما المقال الثاني فتناول ما أسميناه تصدعات وإخفاقات في منبر جدة حول السودان، على إثر نتائج الجولة الأخيرة. نواصل اليوم ما انقطع من حديث الرؤية، وللربط والتذكير نقول: أولا، وراء استطالة أمد الحرب، توهُم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين أن هذه الحرب لا يمكن حسمها عسكريا، ولن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، وقطعا الخاسر هو الوطن.
ثانيا، القوى المدنية والسياسية السودانية هي الأكثر تأهيلا لاجتراح الرؤية لوقف الحرب ووضع أسس عدم تجددها وعدم إعادة إنتاج الأزمة. ثالثا، والرؤية المتوافق عليها هي الأساس لانتظام هذه القوى في منبر يوحد أو ينسق نشاطها وخطابها. رابعا، والرؤية هي مجموع الإجابات على العديد من الأسئلة، منها: ما هي طبيعة الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان الماضي وماهي أسبابها الرئيسية؟ ما هي آليات وقف القتال، وهل هناك أي مساحة لاستخدام القوة عبر تدخل عسكري إقليمي أو دولي لفرض وقف الحرب أو لخلق مناطق منزوعة السلاح لتحقيق انسياب المساعدات الإنسانية؟ ما هو جوهر العملية السياسية التي يتم التحدث عنها، وهل لقيادات الطرفين العسكريين المتصارعين أي دور فيها؟
أين موقع العدالة والمساءلة بالنسبة لجريمة اندلاع الحرب وما صاحبها من انتهاكات؟ وما هو مستقبل قيادة الجيش ومستقبل قوات الدعم السريع وكل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى، وكيفية إصلاح القطاع الأمني والعسكري حتى يكون للسودان جيشه الوطني المهني الواحد الذي يحتكر كل أشكال النشاط العسكري في البلاد، ويلتزم بمهامه في حماية الدستور في إطار الحكم المدني الديمقراطي، وحتى يكون له القوى النظامية الأخرى التي تلتزم بذات المهام والواجبات؟ وهل ستنحصر العملية السياسية في قضايا الانتقال أم ستتمدد وتتوسع لتبحث قضايا إعادة تأسيس الدولة السودانية، الى غير ذلك من الأسئلة. خامسا، وفي المقالات السابقة، ناقشنا الأسئلة المتعلقة بطبيعة الحرب، وبماهية آليات وقف الاقتتال، وبالمحاسبة والمساءلة القانونية لكل من شارك في هذه الجريمة، كما ناقشنا مستقبل قيادات الجيش، ومستقبل قوات الدعم السريع وكل الحركات والميليشيات المسلحة الأخرى، وتوقفنا عند كيفية إصلاح القطاع العسكري والأمني، وهو ما سنتطرق إليه في مقال اليوم. سادسا، نوهنا بضرورة انتظام مجموعات القوى المدنية والسياسية السودانية في حلقات نقاش تسعى للتوافق حول إجابات لهذه الأسئلة وغيرها.
ما هي آليات وقف القتال، وهل هناك أي مساحة لاستخدام القوة عبر تدخل عسكري إقليمي أو دولي لفرض وقف الحرب أو لخلق مناطق منزوعة السلاح لتحقيق انسياب المساعدات الإنسانية؟
سابعا، وأكدنا على أن وجهة نظرنا حول الرؤية، ليست بالضرورة هي الصحيحة في كل جوانبها وتفاصيلها، ولكنا نعتقد بأنها قد تكون صائبة في جانب، ومخطئة تستوجب إعادة النظر في جانب آخر، كما أنها قد تجذب الاتفاق أو تستدعي الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية.
اليوم، وفي المقالات التالية، سنتناول عملية إصلاح القطاع الأمني العسكري في السودان، والتي تحكمها مجموعة من المبادئ، من بينها: أولا، هدفها الرئيسي ليس مجرد التفكيك والإحلال، وإنما التطوير والتحديث حتى تتماشى المؤسسات العسكرية والأمنية مع مفاهيم الحرية والتحول الديمقراطي والسلام والعدالة والتنمية المستدامة. ثانيا، لا تتم بضربة واحدة وخلال فترة زمنية قصيرة، وإنما هي سلسلة عمليات مركبة (بروسس) ستأخذ مدى طويلا. ثالثا، وهي ترتبط بالإصلاح الشامل لكل مؤسسات الدولة الأخرى. رابعا، هي ليست مجرد قرارات أو إجراءات سياسية أو إدارية أو فنية، وإنما تستند إلى مفاهيم علمية متوافق عليها دوليا، وتستهدي بالتجارب الناجحة التي تمت في البلدان الأخرى. خامسا، وهي بالضرورة لا تخضع للأهواء والمزايدات السياسية والإعلامية. سادسا، يتم تنفيذها من داخل المؤسسات العسكرية والأمنية وبواسطة منسوبيها، على أن تخضع إلى رقابة المؤسسات المدنية من حكومة ومجلس تشريعي. سابعا، عملية الإصلاح العسكري والأمني يمكن أن تُبتدر خلال الفترة الانتقالية شريطة أن يتم ذلك وفق مبدأ الشفافية، وبالتنسيق مع المؤسسات المدنية، لكن استكمال العملية واعتماد نتائجها تقوم به المؤسسات المنتخبة. ثامنا، وبحكم التاريخ السياسي للسودان وما أفرزه من تجارب حيال المؤسسات العسكرية، وكذلك بحكم التجارب العالمية في هذا المجال، فإن العناوين الرئيسية لإصلاح القطاع الأمني والعسكري، يجب أن تتضمن، على سبيل المثال لا الحصر، التدابير التالية: التحديث والتطوير وتوفير الإمكانات، أن تقوم العقيدة الأمنية والعسكرية على مبادئ التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان وفق المواثيق الدولية وسيادة حكم القانون، تنقية القطاع العسكري والأمني من الانحيازات السياسية والعقائدية، ضرورة مشاركة المجتمع السياسي والمجتمع المدني في رسم السياسات الخاصة بإستراتيجية الأمن القومي، الشفافية في عملية اتخاذ القرارات وصنع السياسات الأمنية، تقوية الإدارة المدنية والمحاسبة الديمقراطية للمؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية، وتقوية إشراف البرلمان ورقابة المجتمع المدني على هذه المؤسسات، التعامل الجاد مع حالة فقدان الثقة في مؤسسات القطاع الأمني/العسكري، وذلك لاستعادتها والتصالح مع القوى المدنية، تجسيد مبدأ المساءلة وعدم الإفلات من العقاب في مؤسسات القطاع، والمعاقبة على أي انتهاكات، تمت سابقا أو تتم لاحقا، محاربة الفساد واستغلال النفوذ داخل هذه المؤسسات..إلخ. تاسعا وأخيرا، فإن عملية إصلاح القطاع العسكري/الأمني في السودان تستدعي التاريخ الناصع لمؤسسات هذا القطاع من جيش وشرطة والقوات النظامية الأخرى، والتي ظلت بحق مؤسسات قومية قبل أن تمتد أيادي الإنقاذ الآثمة وتعمل فيها تخريبا مما دفع البعض إلى القدح في صدق قوميتها. وما تريده ثورة السودان اليوم هو العودة بالجيش والشرطة وجهاز الأمن والقطاعات نظامية الأخرى إلى رحاب القومية ووعاء الوطنية، بعيدا عن الانتماءات الحزبية أو الجهوية، وانحيازا إلى الشعب وقضاياه وحماية له.