عن سودان زمان مجددا

0 110
كتب: جعفر عباس
.
كان جيل آبائنا يسمي الخرطوم بحري الحلفايا، لكون الحلفايا أقدم منطقة سكنية في ذلك الموقع، حيث جعل منها العبدلاب عاصمة لدولتهم في عام 1747، ومن ثم صارت تعرف بحلفاية الملوك، ووفد عليها الشايقية ثم القبائل الأخرى في عهود لاحقة، وعند قدوم الانجليز أقاموا معسكرا للجند الى الشمال من الخرطوم، وأسموا الموقع الخرطوم البحرية، وأسماها الانجليز خرطوم نورث، وكان بها وقتها عدد محدود من المساكن حول ضريحي الشيخين خوجلي وحمد ود مريوم.
وشيئا فشيئا تحولت بحري الى مدينة عمالية لنشوء منطقة صناعية ضخمة فيها، وحتى قبل نحو ثلاثين سنة كانت في بحري مصانع تنتج معجوم سيجنال والاسبرين وكافينول (مسكن للألم)، وبطاريات (الروبي) للسيارات، وبطاريات إيفريدي Everready والمنسوجات (مصنعان) وصابون بوكيه ونادية للاستحمام وصابون صافي (الحيَّر أوصافي) للغسيل، وكان هناك صابون فاخر اسمه “جابي” يتم تصديره بالكامل الى شرق ووسط أفريقيا، وبسكويت كوكو wafer، وكولونيا A1، والبيرة أبو جمل وعدة مصانع للشيري (النبيذ)، وذات عام زار الواعظ الديني الراحل الشيخ طنون حلفا وصاح في أهله: حرام عليكم تكون في يافطة دعاية للبيرة في مدخل مدينتكم، فتصدى له حلفاوي: انت جاي من البلد ال بتصنع البيرة وزعلان على اليافطة؟ نعم كانت الحكومة تكسب ملايين من جمارك المريسة المعبأة في قوارير، وتم إغلاق تلك المصانع عندما صار جعفر نميري امير المؤمنين في سبتمبر 1983، وفي حفل مهيب تم صب محتويات آلاف قوارير الخمر في النيل عند المقرن، وشوهد كل من أكل سمكا في المنطقة الواقعة شمال ام درمان وهو “يدوبي”: تسلم يا اب عاج أخوي.
وكانت المنطقة الصناعية في بحري أكثر منطقة آمنة في المدينة لأن حركة البشر فيها كانت متواصلة طوال اليوم، وكان من يريد من أهل بحري تناول وجبة دسمة في ساعة متأخرة من الليل يتوجه الى كافتيريا مصنع النسيج السوداني أو باتا للأحذية (عملت خلال دراستي في الجامعة في دكان باتا في كوستي، ولم يشكل عمى الألوان لي مشكلة لأن كل صندوق أحذية كان يحمل رقما يرمز للون: 6 = اسود، و4 = بني، وهكذا)، واليوم “أبقى راجل وشق المنطقة الصناعية في بحري كداري بعد غروب الشمس”
في بحري الأصلية أي قبل توسعها العشوائي في السنوات الأخيرة، لم يكن لأي بيت جار من الناحية الخلفية، أي أنك تجد فيها صفا واحدا من البيوت أبوابها تفتح في اتجاه معين ونوافذها من الناحية الأخرى تطل على الشارع (حلة حمد التي ولدتُ فيها أم درمانية التخطيط، وشوارعها ملولوة لأنها وحلة خوجلي كانتا مسكونتين قبل قدوم الانجليز وتقرر عدم هدم البيوت القديمة فيها بذريعة التخطيط).
وساهم في إعمار بحري مستثمرون يونانيون ولبنانيون وسوريون أقاموا المزارع والبساتين (عزيز كفوري نموذجا)، فصارت سوقا أساسية للخضروات والفاكهة وتوصيلها عبر السكة حديد الى شرق وشمال السودان، وطوال تاريخ السودان القريب لم تكن بحري مسرحا لأي عنف في كل المحاولات الانقلابية الفاشلة والناجحة، إلى ان جاءت حرب ابريل الجارية الآن وصارت معظم أحياء بحري خرابات يعافها حتى البوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.