الثقافة والهرج: لماذا يخمل ذكر حرب السودان في العالمين؟ (1-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
يتفق كثير من المعلقين أن حرب السودان خاملة الذكر في العالمين. ويرد بعضهم هذا الخمول من جهة السياق لتواتر الحروب من حولها في أوكرانيا وغزة. ويعزي آخرون هذا الخمول إلى ارتكاب قوى عالمية وإقليمية لهذه الحرب وإن بحسن نية جهلاً بحقائق السودان. وانصب أكثر هذا النقد على أميركا ودورها في الفترة الانتقالية للديمقراطية العاقبة لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 حتى رماها الصحافي إدوارد وونق وآخرون بـ”السذاجة” في “نيويورك تايمز”.
وقال ألكس دي وال، من “الجهة الأخرى”، بأنها لم تعرف لمسألة السودان صرفاً ولا عدلاً. وأخذ عليها جستن لينش من “نيويورك تايمز” أن مساعيها المرتبكة في دمج “الدعم السريع” في القوات المسلحة، التي أوكلتها لوسطاء في الدرك الأسفل من الدبلوماسية، هي التي قادت للحرب. فلم تفشل مساعي أميركا وأوروبا في إحلال الديمقراطية في السودان فحسب، في قوله، بل ساقت إلى انهيار السودان أيضاً.
والأمر مع ذلك أعقد، صح اتهام العالم بإشعال هذه الحرب إهمالاً أم لم يصح. فالحرب في قول ويليامسون، مؤلف كتاب “الاستراتيجية والفاعلية العسكرية”، مسعى بالغ التعقيد. وليس مثلها من يلحف في استدعاء الفكر والأخلاقية لبلوغ مرماه. وهذا ما قال به فون كلوسويتز قبل قرنين عن حاجة الحرب، ككل مهمة معقدة، إلى عقول مستطيعة تحتفظ، في الساعة الأشد حلكة، بشيء من بارق نور داخلي يضيء الطريق إلى الحقيقة، ومن ثم الشجاعة لمتابعة هذا الضوء الضئيل إلى حيث يهديك سبيلاً.
وبعبارة بسيطة فالحرب ثقافة في غير حومة الوغى كما في حومتها، وهنا مقتل حرب السودان. فمغازي الحرب المهلكة هذه غائبة عنا وعن العالم لأن صفوة الرأي السودانية في شغل عنها بحرب أطرافها في اليمين واليسار. وكان أول هذه الحرب الصفوية هو الاتهامات المتبادلة حول من الذي بدأ منهما، لا الجيشين، هذه الحرب. وخاضا، ولا يزالان، في حربهما من حول الحرب في الميدان على الوسائط مع أن زعم أي منهما ببدء الحرب فوق أجر أي منهما كما تقول العبارة الإنجليزية.
ولإثبات جريرة الحرب واحدهما على الآخر تحاكما بأدلة ظرفية في أحسن أحوالها إن لم تكن من باب فش الغبينة التاريخية بين هذين الوعلين اللذين جعلا من نزاعهما منذ عهد الطلب مطلب السياسة السودانية ونهاية أربها. وهذا الدور الهامشي للصفوة من حرب الميدان ثمرة مرة لتطاول الحرب في السودان منذ استقلاله عام 1956. فأفدح ما ترتب على تطاولها أن صارت الصفوة المدنية فاقداً سياسياً كبيراً. فلم يخرج منا المثقف ذو النظر المحيط الذي، في تعريف إدوارد سعيد، يصدع بالحق ويأخذ سائر أهل الشوكة بغير رحمة، فقد فرضت الحرب وتجفيف المجتمع المدني وضعاً صار به المثقف عالة على أطراف المعركة العسكريين.
وهذا هو الوضع المُشاهد ليومنا. فتلقي قوى الحرية والتغيير (قحت) بلائمة الحرب على الإسلاميين (الكيزان) مما يقوي، أرادت أو لم ترد، حجة قوات “الدعم السريع” بأنها الطرف الذي اعتدى عليه الجيش، في حين يرمي “الكيزان” “قحت” بتهمة بدء الحرب لتعزيز حجة الجيش بأنه ضحية عدوان “الدعم السريع”. وبلغا من هذا الاشتباك الكثيف ببعضهما بعضاً حداً مؤسفاً، إذ أعد كل منهما قائمة بأسماء من الطرف الآخر لتنال جزاءها المستحق يوم النصر.
وجردت هذه المعارك الصفوية الحرب من المغزى حتى بدت للعالم نزاعاً فادحاً بين “جنرالين” متعطشين للسلطة. فلم تجد المسائل التي رمت الحرب بتحدياتها للوجود السوداني مكاناً في الخطاب الصفوي عندنا. فلم تنتج مواقف الاصطفاف ضد أو مع جيش من الجيشين (أو حتى الحياد) معرفة تحيط بهذه التحديات نستضيء في عتمتها بها. وهي تحديات عن صورتنا لما تكون عليه الدولة القومية الحديثة، والجيش المهني فيها الذي قال صموئيل هنتنغتون إنه متخصص بـ”إدارة العنف” عنها. كما اتصلت هذه التحديات بالدولة الوطنية لما بعد الاستعمار وتداول السلطة والثروة فيها. وطالت النطاق الإقليمي من تضعضع بيئاته والهجرات عنه التي لا تعرف “جواز سفر” في أغنية سودانية شهيرة.
وتحايل خطاب الصفوة من دون التعاطي مع أمهات المسائل في الحرب مثل منزلة الجيش في الدولة الوطنية الحديثة. فلا ترى “قحت” من جيشنا ما يجعلها تستدعي له تلك المنزلة وهي “إدارة العنف” في مثل هذه الدولة. ولـ”قحت” في تجريد الجيش عن منزلته تلك في السودان حجتان، أولاهما أنه مجرد ميليشيات كيزانية وقف الإسلاميون على تحولها إلى هذه الصفة خلال حكم دولة الإنقاذ لثلاثة عقود. أما الحجة الأخرى فهي أنه جاء اليوم للجيش ليشرب من كأس سقاها مع “الدعم السريع” لطوائف من الشعب قبل سقوط نظام الإنقاذ. فلا بواكي لقاتل نفسه كما تقول العبارة في السودان.
نواصل