التصدي لنهب الأراضي في ظل الحرب (٢/٢)

0 127

كتب: تاج السر عثمان بابو

.

ثانيا: بعد الاستقلال سارت البلاد في طريق التنمية الرأسمالية واستمر التطور غير المتكافئ في السودان مصدرا للسلع الأولية ومستوردا للسلع الرأسمالية ، وتمّ التوسع في الاراضي الزراعية كما في مشروع الجزيرة وبقية المشاريع الحكومية، ومشاريع القطاع الخاص و مشاريع الزراعة الآلية.

كما صدرقانون الزراعة المطرية لعام 1959م لتنظيمها والاشراف عليها في فترة الحكم العسكري الأول، وربط الاقتصاد السوداني بمشاريع المعونة الأمريكية التي قامت علي قروض من أمريكا وبقية الدول الرأسمالية الغربية ، وزادت مساحة الأراضي المزروعة بقيام مشاريع مثل: مشروع المناقل وخزان الروصيرص وخشم القربة ، فخزان الروصيرص اعتمد في قيامه علي قرض جملته 18 مليون جنية من البنك الدولي بالاضافة الي القرضين من المانيا الغربية ومؤسسة التنمية العالمية.

– كما شهدت فترة الحكم العسكري الأول فقدان جزء من اراضي السودان باغراق مدينة حلفا التاريخية وضياع كنوزها الأثرية بعد قيام السد العالي ، وبتعويضات غير مجزية وفساد لازم عملية التهجير الي منطقة خشم القربة.

كان التوسع في الزراعة الآلية لمصلحة التراكم الرأسمالي للقطاع الخاص ، والذين دخلوا الزراعة الآلية: كبار موطفي الخدمة المدنية وضباط الجيش المتقاعدين الذين استغلوا مواقعهم السابقة في جهاز الدولة للحصول علي تسهيلات لتمويل نشاطهم الزراعي، وعلي تسهيلات حكومية. اضافة لتهريبهم الارباح خارج الأسواق الرسمية للتهرب من الضرائب والرسوم وللبيع بأسعار أعلى ، أو التهريب للبلدان المجاورة.

ثالثا : بداية انقلاب مايو 1969صدر قانون الأراضي غير المسجلة لسنة 1970 ، الذي تزامن  مع إلغاء نظام الإدارة الأهلية، والتي كانت مؤسسة هامة من حيث تنظيم الأراضي والتعامل مع النزاعات التي لا مفر من حدوثها بين مالكي الديار والحواكير، أو حتى بين أولئك الذين لا يملكون أي من هذه العناصر. ومع أنه تم إعادة نظام الحكم المحلي، إلا أنه أصبح أضعف بشكل كبير، إضافة إلى أنه فقد مصداقيته، كما مكن قانون 1970 الحكومة أيضا من تنفيذ سياسة تنمية مبنية على توسيع القطاع الزراعي، خاصة الزراعة الآلية، حيث زادت نسبة الأراضي التي خضعت لسياسة الزراعة الآلية، وبعد صدور قانون 1970 ، زادت مساحات الأراضي المزروعة بقيام مشاريع زراعية جديدة مثل: مشروع السوكي الزراعي ، مشروع الرهد الزراعي، مشروع كلي ، ومشروع السيال. الخ.

كما صدر قانون تنمية الاستثمار الزراعي لعام 1976 الذي يهدف الي تشجيع رأس المال الوطني والأجنبي للاستثمار في الزراعة.

كما زاد التوسع في الزراعة الآلية وقيام مؤسسات زراعية مثل: المؤسسة العامة للزراعة الآلية التي تضم : مؤسسات الدمازين والقضارف ، والدلنج، الرنك ، اقليم كوستي ، نيرتتي وأم عجاج ، والتي تقوم بإنتاج الذرة والسمسم والقطن والدخن. الخ، كما خُصصت مليون ونصف فدان لشركة ترياد الأمريكية (مليون فدان) وشركة الدمازين الزراعية (نصف مليون فدان)، اضافة مشاريع الزراعة الآلية.

رغم تلك المشاريع للزراعة الآلية والمشاريع المروية والمساحات الكبيرة التي كان من المزمع زراعتها قطنا وقمحا وسمسما ودرة ودخنا .الخ ، لتحقيق الاكتفاء الذاتي وفيما كان يُقال سوف يصبح السودان سلة غذاء العالم ، فان الإنتاج الزراعي ظل يتدهور من عام لآخر خلال هذه الفترة ، حتى اجتاحت البلاد المجاعة عام 1983/1984 ، بعد الجفاف والتصحر الذي حدث بسبب الهجوم علي الغابات من الزراعة الآلية وتدمير البيئة، وعدم تحوط الحكومة للكوارث الطبيعية مثل : هجوم الحيوانات والآفات والجراد والحشرات والفئران .الخ، والاستعداد الكافي لها .

أدي تدهور القطاع الزراعي، لفقدان أعداد كبيرة من اشجار الهشاب والطلح مما أثر في إنتاج البلاد من الصمغ الذي يدر عملة صعبة ، والجفاف والتصحر الذي أدي للمجاعة ، وعدم تجديد الثروة الشجرية الذي قلص مساحات الغابات، وتدهور ثروات البلاد من الحيوانات الوحشية نتيجة لتغول الزراعة الآلية في مناطق الثروات الوحشية، وتقلص مساحات المرعي الطبيعي مما أدي للصدامات القبلية أو فقدان ثروات حيوانية كبيرة نتيجة لدخول أعداد كبيرة من الرعاة بحيواناتهم للدول المجاورة لمناطق الرعي الطبيعي، اضافة لتخلف القوي المنتجة في الزراعة، والتخلف العلمي والتكنولوجي..

رغم الضجيج الذي كنا نسمعه في السبعينيات عن الاهتمام بالقطاع الزراعي ومشاريع التنمية الزراعية ، الا أن الواقع الفعلي يشير الي أن نسبة الاستثمارات التي كانت موجهة للقطاع الزراعي لا تتجاوز 22% من جملة الاستثمارات رغم أنه كان المصدر الرئيسي للفائض الاقتصادي في السودان( العرض الاقتصادي 78/ 1978).

بنهب الأراضي تم فتح الطريق للشركات الرأسمالية الاقليمية والمحلية للاستثمار في الزراعة الآلية ، و نهب الأراضي في القطاع التقليدي المطري ، وتم طرد السكان المحليين من أراضيهم ، و تحقيق أرباح بمليارات الدولارات تم تهريبها للخارج ، وبدلا من أن يكون السودان سلة غذاء العالم اجتاحته مجاعة 83 / 1984 ، بعد تدمير البيئة باقتلاع الآلاف من الأشجار ، وضيق مساحات الرعي والزراعة المعيشية للقبائل مما أدي للنزوح والصدام القبلي بين الرعاة والمزارعين، وانضمام شباب الجنوب وجبال النوبا للكفاح السياسي و المسلح دفاعا عن اراضيها ، وهروب الثروة الحيوانية للدول المجاورة ، ونقصان العائد من محصول الصمغ بعد قطع الاف الأفدنه من اشجار الهشاب، وحدث النزوح الكبير من غرب السودان للخرطوم وغيرها.

كما تمّ تهريب الأرباح أوالفائض الاقتصادي علي سبيل المثال شهدت الفترة ( 78 / 79 – 84 / 1985 م ) اكبر عملية تهريب لرؤس الأموال السودانية الى الخارج ، وتم تقدير رأس المال الهارب بحسابات مختلفة : 19 مليار دولار ، 16 مليار دولار ، 11 مليار دولار، ومهما يكن من امر ، إذا أخذنا المتوسط حوالي 15 مليار دولار ، نلاحظ من ذلك ان الفائض الاقتصادي اللازم لاستثماره في السودان والذي تم تصديره للخارج كان ضخما ، وانطبق علينا المثل السوداني القائل ( ميتة وخراب ديار) ، أي ديون بلغت 9 مليار دولار ورأس مال هارب بلغ في المتوسط 15 مليار دولار .

وحسب د . على عبد القادر على: أن القطاع المصرفي السوداني يقف متهما بتمويل عملية تهريب رأس المال من خلال تمويله لعمليات السوق السوداء للنقد الأجنبي، ونلاحظ سريعا إن القطاع المصرفي مملوك للدولة بنسبة 60 % !! (د . على عبد القادر على، حول سياسات التصحيح وهروب رأس المال، الكويت، فبراير 1988).

رابعا : في فترة الديمقراطية الثالثة صدر قانون التصرف في الأراضي لسنة 1986 الذي أشار في المادة (9): “إذا عجز مستأجر الأرض أو المنفعة عن تعمير قطعة الأرض المؤجرة له خلال المدة الابتدائية أو أي امتداد لها دون إبداء أسباب معقولة فيجوز للسلطات المختصة إلغاء عقد الإيجار واسترداد قطعة الأرض منه وإعادة التصرف فيها”، وفي المادة (10): “يجب على المستأجر أو المنتفع أن يلتزم بشروط عقد الإيجار أو المنفعة وألا يستثمر الأرض المؤجرة دون الحصول على إذن من سلطات الأراضي وسلطات التخطيط العمراني، إلى للغرض المخصصة له والمبين في عقد الإيجار أو أمر التخصيص النهائي أو المؤقت”.

خامسا : في بداية فترة حكم الانقاذ صدر قانون التخطيط العمراني والتصرف في الأراضي لسنة 1994 الذي أشار في المادة (13) ” يجوز نزع ملكية الأرض للمصلحة العامة بموجب أحكام قانون نزع ملكية الأراضي لسنة 1930 عند ممارسة الوزير لسلطاته بموجب أحكام المادة 9(ج) ، (ه) ، (و)، كما أشار في المادة (14) الي نزع ملكية الأرض التي لم تُعمر.

هذا القانون مع الإجراءات الأخري بعد انقلاب الانقاذ في 30 يونيو 1989 و استيلاء الإسلامويين علي السلطة، مكن لهم في نهب الأراضي:

كما تقلصت اراضي السودان ، وكان من اكبر الخسائر في هذه الفترة انفصال جنوب السودان ، وتقلص مساحة أراضي السودان بفقدان 28% منها ،وفقدان 70% من الغطاء الغابي ، 75% من ثروة النفط ، وتقلص الأراضي الصالحة للزراعة من 200 مليون فدان الي 160 مليون فدان،اضافة لفقدان ثروات معدنية ،ومياة عذبة وثروة حيوانية ووحشية وسمكية.

كذلك تمّ احتلال مصر لحلايب وشلاتين وابورماد ونتوءات وادي حلفا الأخيرة . الخ، واحتلال اثيوبيا للفشقة، وتأجير ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية الخصبة لدول الخليج وغيرها لمدة تصل ( 33- 99 عاما) دون مراعاة مصالح الأجيال القادمة، والحفاظ علي المياه الجوفية الناضبة.

كما صدر قانون الاستثمار بتاريخ 31 يناير 2013 الذي ضمن للمستثمر استئجار الأرض لمدة تصل الي 99عاما، كما ضمن القانون للمستثمر تصدير كل منتجاته بلا رسوم جمركية أو اجراءات إدارية كتفتيش البضائع المراد تصديرها.

كما تمّ تجاوز ما كان ساريا ما اشرنا اليه سابقا حول قوانين تنظيم ملكية الأرض في فترة الحكم الانجليزي من تحريم تمليك الأرض في السودان للاجانب، ومن حماية لاصحاب الأرض الاصليين.

في هذا الفترة تمت أكبر هجمة علي اراضي السودان الزراعية أدت لصراعات طبقية وقبلية وحروب، كما في الآتي:

– انتزاع الأراضي أو الحواكير في دارفور علي أساس أن ” الأرض لله” ، وتمت الابادة الجماعية في دارفور وحرق آلاف القري والتي أدت في العام 2003 حسب احصائية الأمم المتحدة الي مقتل300 ألف مواطن ” حاليا وصلت الي 500 الف” ونزوح أكثر من2,5 مليون ” حاليا تجاوز 3 مليون مازح”، واحلال مستوطنين من الدول المجاورة في اراضيهم، والاستيلاء علي اراضي قبائل الفور،. الخ الخصبة، ومناجم الذهب كما في جبل عامر وغيره، مما أدي ليكون البشير ومن معه مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية.

– في الفترة:” 2008- 2018 ” ، وبعد الأزمة الاقتصادية لعام 2008 ، وخاصة بعد انفصال الجنوب وفقدان البلاد ل 75% من عائد النفط ، واحتياج حكومة البشير لنهب موارد جديدة ، منح السودان ملايين الأفدانة لمستثمرين من السعودية والامارات وتركيا والصين والأردن، قطر،مصر ،لبنان، الكويت ، وسوريا، والتي استحوذت على مساحات شاسعة من الأراضي لإنتاج المحاصيل الغذائية والأعلاف الحيوانية مثل البرسيم ، والوقود الحيوي، فضلا عن تقلص مواردنا المائية.

وهي في الواقع عملية نهب للاراضي لأنها تستنزف خصوبة التربة والمياه الجوفية في سلب واضح لحقوق المجتمعات المحلية التي تعتمد على الأرض في الرعي الزراعة للاكتفاء من الغذاء، رغم طلب الحكومة بتخصيص 25% من أراضي الاستثمار للمجتمعات المحلية الا أن ذلك لم يتم بالشكل المطلوب ، واستمر نهب أراضي السكان المحليين وطردهم من اراضيهم.

كما واصلت السلطة في السياسة نفسها بعد انقلاب اللجنة الأمنية في 11 أبريل 2019 ، كما في إعلان البرهان منح تركيا 100 الف هكتار للاستثمار في السودان، وبقية المشاريع مثل مشروع الهواد وغيره..

لم يكتف نظام الانقاذ بنهب الأراضي الزراعية، بل امتد النهب لما في باطن الأرض من معادن وبترول ، ومارست الإبادة الجماعية لهذا الهدف كما في استخراج البترول والذهب.

في فترة إنتاج البترول وتصديره في عهد الانقاذ لم يتم الاستفادة من عائدات النفط في دعم الإنتاج الزراعي والصناعي والحيواني والبنيات الأساسية لأن النفط ثروة ناضبة ، بل تم نهب عائدات البترول من الرأسمالية الطفيلية الإسلاموية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ، وتهريبها للخارج ، اضافة لنهب ثروات السودان وصب الزيت علي لهب الصراع في الجنوب، بعد اكتشاف شركة شيفرون الأمريكية للنفط ، وتفاقم مشكلة الجنوب بعد أن الغي الديكتاتور نميري عام 1983 اتفاقية اديس أبابا وتقسيم الجنوب، واندلاع الحرب الأهلية من جديد ، حتى الانفصال بعد اتفاقية نيفاشا ، وكان من اسباب التعجيل به اكتشاف النفط الذي فتح شهية الانفصال بالاستحواذ علي كل عائداته بدلا من اقتسامه، هذا اضافة لتدمير البيئة والغابات ، والموارد المائية، وطرد أعداد كبيرة من سكان الجنوب و النوبة من أراضيهم لمرور أنابيب النفط لميناء بورتسودان بواسطة الشركات الصينية وغيرها من المؤسسات التي كانت عاملة في النفط.

كما استمرت الممارسات نفسها في نهب ثروة الذهب في السودان ، وتهريب أكثر من 70% من عائداته للخارج، علي سبيل المثال : متوسط إنتاج الذهب بين 100- 250 طن (صحيفة الشرق الأوسط :11 يناير 2020)، وتُقدر العائدات بحوالي 8 مليار دولار، في حين التقديرات الرسمية للحكومة بين 82- 93 طن ( موقع الجزيرة 5/1/ 2017)، بعائدات تُقدر بمتوسط 850 مليون دولار، مما يعكس حجم النهب والتهريب الكيير لعائدات الذهب في السودان، وفقدان الدولة لثروة كبيرة، مما يتطلب اوسع حملة لوضع الدولة يدها علي ثروة الذهب لمصلحة تقدم وتنمية البلاد، حتى لايتم تبديدها كما حدث للنفط.

مما يتطلب استكمال مهام الثورة يتحسين شروط الاستثمار، ومراجعة كل العقود التي تصل مدة ايجارها 99 عاما بانسبة للاراضي ، وعقود شركات التعدين التي تصل فيها نسبة الشركات الي 70%، مع تدمير البيئة، وعدم تطوير مناطق التعدين بتسبة من عائدات الذهب وبقية المعادن..

وأخيرا ، نلاحظ أن عملية نهب الأراضي وابادة وتهجير السكان الاصليين كما يحدث حاليا في دارفور وجنوب النيل الأزرق، وجنوب كردفان وبقية المناطق بهدف نهب الأراضي والموارد ، والشروط القاسية التي يعمل فيها المعدنون في استخراج الذهب والذين يتعرضون احيانا للموت والدفن في المناجم نتيجة انهيارها ، وفي ظروف عمل اشبة بالاسترقاق بحثا عما يقيم أود الحياة لمصلحة شركات أجنبية وأفراد رأسماليين يحققون أكبر تراكم رأسمالي بدائي من تلك العملية اشبه بما وصفه ماركس في مؤلفه ” الرأسمال” المجلد الأول : “إن اكتشاف الذهب والفضة في أمريكا وافناء السكان الأصليين واسترقاقهم ودفنهم في المناجم ، وبداية غزو ونهب جزر الهند الغربية ، وتحول افريقيا الي منطقة لصيد ذوى الشرة السوداء علي نطاق تجاري ، كل ذلك أعلن الفجر الوردي لعصر الإنتاج الرأسمالي” ( كارل ماركس ، الرأسمال ، المجلد الأول ، موسكو 1974 ، ص ٧٠٤.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.