محمد نجيب محمد علي: مبدع متنازع بين رهق الصحافة وسؤالات الأدب
كتب: صلاح شعيب
.
العلاقة المتينة بين المبدعين ومهنة الصحافة مما تسم بكثرة المشهدين الثقافي والإعلامي في السودان منذ زمن طويل. فالأدب نشا في كنف الصحافة، والأخيرة استهلت ظهورها في البلاد أدبياً حتى تطورت مستفيدة من تقنيات التحرير الأجنبية بعد تواصل إعلاميين الرواد مع العالم الغربي، دارسين، ومتدربين، أو مراسلين صحفيين لكبريات وكالات الأنباء آنذاك. والأدب في السودان عمق وجوده صحافيون يجمعون بين كتابة الخبر، والمقال الصحفي، وبين كتابة القصيدة، والرواية، والقصة القصيرة، والنقد الأدبي.
الأستاذ محمد نجيب محمد علي واحد من رموزنا الأدبية، والإعلامية. إذ جمع بين مهنة الصحافة وكتابة الشعر، وطل لنصف قرن تقريباً يخدم فسطاط الصحافة بتحريره للمادة الثقافية عبر ملاحق صحفية أشرف عليها، ومن خلال حوارات صحفية أجراها مع كبار رموز الثقافة من روائيين، وتشكيليين، وكتاب قصة، وشعراء، ونقاد، وغيرهم ممن يسهمون في العمل الأدبي. وبعد كل هذه الأعوام – وهو متبتل في محراب الصحافة والأدب – يصعب التفريق بين الوفاء الذي بذله للمهنة، وبين الدور الذي قدمه الصحافي الثقافي من خلالها لنشر رسالة الإبداع. السؤال عن المدى الذي كانت فيه الصحافة مستفيدة أكثر أم الأدب من هذه العلاقة التي جسر بها نجيب الاقتراب من الجمهورين يظل بحاجة إلى جرد عطاء لهذه السنوات الطويلة لمحمد نجيب في المجالين المتقاربين، وذلك لن يتأتى إلا عبر ندوة ثقافية بحالها.. يشارك فيها كل من عرفوا هذا الجهد المميز لشاعر وناقد حفي بالإبداع، وصحافي عركه الارتباط المستمر بأروقة الصحافة الورقية من جرائد ومجلات، وتواصلاً مع العصر الرقمي الذي خلق وسائط متعددة للإعلام والتثقيف، وجعل لمساهمات محمد نجيب الثقافية والصحفية حضوراً كثيفاً.
محمد نجيب محمد على من مواليد أرقو في منتصف الخمسينات، ونال ليسانس قسم الدراسات الفلسفية من جامعة القاهرة عام 1980، وتنقل في العديد من الوظائف قبل أن يستقر في مهنة الصحافة. وعمل بالتدريس في اليمن للفلسفة وعلم النفس وعمل بمختلف الأعمال الحرة. أما علاقة محمد نجيب مع الكتابة خاصة الشعر فقد بدأت كما يقول: “في فترة مبكرة تقريباً في المرحلة الوسطى الثانوية العامة..كان أول ديوان صدر لي وأنا طالب في مدرسة محمد حسين الثانوية العليا عام 1971 بعنوان “تعاويذ على شرفات الليل”.
-٢-
بخلاف تعاونه مع أحمد شاويش في”بتذكرك” و”تعالي معاي”، وأعمال أخرى، تغنى بأعماله العديد من المبدعين منهم الجيلاني الواثق في “مع السلامة” و”مهرجان” والعديد من الأعمال الأخرى، ومجذوب أونسة في “استني يا حلم الصبا” و”واحد يقدر ينسى نفسو” وأعمال أخرى، وعبير على في “خايفه” وأنس العاقب في “عائشة” و”أنا ما بريدك وبس” وأعمال أخرى. وأول من تغنى بكلماته الفنان الشعبي الراحل فضل محمد فضل في فرصة سعيدة، ومؤخرا تعاون مع الأستاذ يوسف الموصلي عبر “لحظة مرت” وفدوى فريد في “تراتيل” وهناك “سكة سفر”، والعديد من الأصوات الجديدة.
حاز الشاعر محمد نجيب على الجائزة الأولى في مسابقة الكتاب الأفارقة باوا في مجال القصيدة العربية بديوان نداء الاجنحة عام 2022، كما فاز بجائزة الطيب صالح العالمية بديوان أناشيد الأسئلة في الدورة الثالثة عشر.
عمل الصحافي محمد نجيب بالعديد من الصحف والمجلات بدءً بمجلة الإذاعة والتلفزيون في عهد الأستاذ عبدالله جلاب ثم جريدة الأضواء في عهد محمد الحسن أحمد والشاهد واليوم التالي وصحيفة الجريدة، وصحف أخرى. كما عمل مديراً لمكتب الوطن القطرية بالخرطوم على مدى أربع سنوات، وعمل أيضاً مراسلاً متعاوناً لتغطية المناشط الثقافية لموقع الجزيرة نت على مدى أربع سنوات، ثم متعاونا مع مجلة القوافي التي تصدر عن بيت الشعر من الشارقة، ايضا كانت له مساهمات في أعمال الأطفال بتلفزيون السودان، فضلاً عن كتابة العديد من شعارات مسلسلات التلفزيون السوداني منها “سكة الخطر” و”الدهباية” و”النداء” و”الشيمة” وأعمال أخرى.
كذلك لدى الأديب مساهمات في كتابة القصة القصيرة حيث نشر بعضها، وترجمت له العديد من القصائد للغة الإنجليزية عن طريق شيخ المترجمين السودانيين السر خضر وقد نشرت بموقع سودان ناو، وهناك ترجمات لأعمالهللفرنسية والإسبانية بواسطة مترجمين سودانيين وأجانب. شاركت في العديد من المهرجانات الثقافية في العراق، مصر، الجزائر، مسقط ومناطق اخرى. أيضا ً هناك إصدارات لمحمد نجيب في المجال الثقافي حيث أصدر جزئين من كتاب “حوارات في تدابير الراهن الثقافي” وقد حوى حواراته مع أدباء كبار من السودان والعالم العربي. من الأعمال الأدبية التي صدرت للأستاذ محمد نجيب تجد “ضد الإحباط” و”عن إلزا وذاكرة المدينة” و”نداء الأجنحة” و”دم العاصفة” و”أناشيد الأسئلة.
-٣-
الشاعر النبيل محمد يُقيم الآن بمسقط لظروف الحرب الدائرة بالبلاد، حيث ما يزال حريصاً أن يشكل وجوداً في المحفل الأدبي والشعري برغم ظروف المرض، والإحباطات الكثيرة لواقع الاحتراب في أمدرمان التي أحبها، وقد انعكس هذا الوضع سلباً على عدد كبير من المبدعين الذين حلموا بوطن تتحقق فيه شروط النهضة، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن. إذ أصبح سؤال المحافظة على الوطن الذي أخلص له محمد نجيب يؤرق مضاجع الذي عارضوا الحرب منذ اندلاعها.
احتفاء الصحافي المجيد بجملة من المبدعين، ومحاورتهم عبر مواد صحافية شيقة قابله احتفاء الجيل الجديد به. ففي حوار مع الأستاذ محمد نجيب يقول: “الشعر زملني ودثرني وأصابني بكل ما أصابني من الفقر والجوع والحب والغناء وجعلني شهيداً وشريداً، ومواطناً صالحاً …حين تحرك صوتي بالكلام لم أكن أعرف ماذا أقول، وحين تحركت يدي بالكتابة كنت أسمع أصوات الحروف، وأراها تقاتل، وتطارد، وتعزف ألحانها…هل تعرف كم فتاة عشقها قلبي الوحيد ..؟ وكم رسالة حب لونت بها سماء هذا العالم؟ لقد كنت شقياً ولا أزال…ورغم كل جراح الفوضى التي أحملها إلا أنني مرتب ومنظم جداً”.
وهكذا هم مبدعو بلادنا يعانون في محاولة ردم الفجوة بين الواقع والمثال بعد سنوات يبذرون فيها الفنون سماداً لأمة تخرج من بين ركام تاريخها المشكل لتجد لذاتها موضعاً متقدماً في محيطها الحضاري والإنساني. وشكاوى محمد نجيب في نثره، وقريضه، من استمرار هذا التناقض الكئيب بين حلم البحث عن وطن وحضور وجودي غير قلق بسؤالات الحياة العامة والخاصة في تلافيفها الإنسانية إنما هي من طبيعة قلب المبدع المعذب دوماً، وهو لما يجد سلاماً، ورفاهاً، وتسامحاً، لدى مواطنه القارئ. وكذلك تلك شكاوى صحافيين ما انفكوا يناجون بالمقال الأدبي خيالاً يلهمهم سرعة سريان التنوير في الواقع حتى يعايشوا أثناء حياتهم لحظات تحقق المثال. ولكن هيهات! فالصحافي الأديب مثل محمد نجيب، وهو بعد ملتزم بتصفيف حروف ندية للقراءة حسبه أن يشقى بوعيه الرسالي الذي بذله ثقافياً، ويتلظى بمهنة نادراً ما أسعدت من يحترفها بصدق.. والعزاء أن أستاذنا محمد حر شريف، ونجيب في مجالين لخدمة الإنسان.