منظمة الايقاد تتجدد أو تتبدّد

0 81

كتب: د. عبد الرحمن الغالي

.

بسم الله الرحمن الرحيم
منظمة الايقاد تتجدد أو تتبدّد
(1)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *
(2)
التكالب والصراع على القرن الافريقي
***
يقع القرن الافريقي في منطقة صراع استراتيجي اقليمي ودولي، وفي منطقة صراع حضاري وثقافي ومنطقة تخلف تنموي وكل ذلك يجعله عُرضة لتكالب دولي وإقليمي محموم.
ونسبة للأهمية الاقتصادية و الاستراتيجية لهذا الموقع نشطت تلك الدول المتنافسة بالتواجد الكثيف: العسكري والسياسي والاقتصادي في المنطقة فعلى سبيل المثال توجد حوالي ١٩ قاعدة عسكرية في القرن الافريقي تملكها ١٦ دولة، حيث تضم جيبوتي وحدها ٩ قواعد عسكرية: قاعدة واحدة لكل من أمريكا وألمانيا والصين واليابان وإيطاليا واسبانيا إضافة لثلاث قواعد فرنسية. وتسعى السعودية لبناء قاعدة بها. بينما تضم الصومال ٥ قواعد إريتريا قاعدتين هذا على سبيل المثال. ولإسرائيل وتركيا والامارات كذلك قواعد عسكرية في المنطقة. هذا فضلاً عن دول المنطقة الأخرى التي تضم قواعد وفضلاً عن القواعد الموجودة بالجزر وقبالة السواحل. هذا غير العمليات العسكرية الكثيرة لمكافحة القرصنة وما يسمى بالارهاب الخ مثل العمليات الاوربية: ( عملية اتلانتا) وعملية ( درع المحيط).
(3)
وساطة الايقاد الأولى في السودان:
***
حينما أنشأ الآباء المؤسسون – وعلى رأسهم السودان – منظمة ايقاد -IGADD – حصروا هدفها حسب اسمها في التنمية ومحاربة الجفاف.
وهي منظمة للحكومات: أي أنها تعترف بالدول كوحدات سياسية أصلية لا تفوض صلاحياتها للمنظمة. ثم توسعت المهام في ١٩٩٦ لتشمل مجالات السلم والأمن والتعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي الخ وتغير الإسم تبعاً لذلك في صيغته الانجليزية ليصبح IGAD بسحب كلمة الجفاف Drought..
أتاح هذا التحول من منظمة إقليمية متخصصة الى منظمة إقليمية شاملة الانغماس في القضايا السياسية.
ومع أن السودان هو من اقترح فكرة المنظمة ولكنه كان أكبر الخاسرين من وساطتها الأولى. ففي عام ١٩٩٣ طلبت حكومة الإنقاذ وساطة منظمة الإيقاد بينها وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان ( حركة د. جون قرنق). اقترحت الإيقاد دون تشاور أو اتفاق بين الطرفين إعلان مبادئ متعجل جعل العلمانية شرطاً لوحدة السودان، مما أدى لرفض حكومة الانقاذ لذلك الإعلان. وبعد عدة سنوات من الجولات الفاشلة تكوّن منبر أصدقاء الإيقاد من الدول الغربية ليمنح الوساطة رافعاً قوياً بأدوات ضغط كبيرة، ثم تحول ذلك المنبر لشراكة فصار ( منبر شركاء الإيقاد ) الذي مارس الضغط على حكومة الإنقاذ فقبلت إعلان المباديء وسارت منفردة في عملية التفاوض إلى أن وقعت على اتفاقية نيفاشا التي انتهت بفصل جنوب السودان عن شماله.
اعترت وساطة الايقاد عيوب كثيرة وخطيرة كما اعترى سلوك القوى السياسية السودانية ( حكومة الإنقاذ والتجمع الوطني الديمقراطي بعد خروج حزب الامة القومي منه) أيضاً تفريط واضح أدى للنتائج الكارثية.
فمن عيوب الوساطة :
– عدم الحيادية إذ كان المنبر ودوله في عداء واضح مع حكومة الإنقاذ وفي تحالف معلن مع الحركة الشعبية.
– اندفعت الوساطة تقديم إعلان مبادئ تبنى رؤية الحركة الشعبية وربط وحدة السودان بتحقيق تلك الرؤية أو الانفصال.
– عزلت الوساطة كل القوى السياسية من التفاوض وحصرته بين حملة السلاح. مما غيّب الشمول والملكية القومية، وأوكلت تنفيذ الاتفاق للطرفين المتقاتلين وهمّشت القوى المدنية والسياسية.
– عزلت الوساطة جيران السودان في المحيط العربي.
– برز دورالكفيل ( وكان في هذه الحالة هو شركاء الإيقاد الغربيين في أوربا وأمريكا) في فرض الحلول. كانت اتفاقية السلام هي التطبيق الحرفي لرؤية مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الامريكي في مجموعة عمل ضمت أساطين السياسة الأمريكية ولكنها طُعّمت بسودانيين هم الدكتور فرانسيس دينق. كما ضم الحضور الدكتور محمد إبراهيم خليل والدكتور أحمد البشير والسيد أنيس حجار حيث أوصى التقرير بضرورة الضغط لتحقيق السلام سريعاً حيث كان من المتوقع أن يؤدي استخراج البترول في السودان لتغيير ميزان القوى لصالح حكومة الانقاذ.
(4)
كان واضحاً منذ البداية عيوب عملية الإيقاد لذلك سعى حزب الأمة القومي بقيادة الإمام الصادق المهدي عليه الرحمة والرضوان لتعديل تلك العيوب فنجح في إقناع مصر وليبيا بتبني مبادرة مشتركة تصحح عيوب الايقاد من حيث الأجندة ومن حيث المشاركة لتشمل الأجندة كل القضايا الوطنية وتمنع فرض شروط مسبقة مثل شرط العلمانية أو الانفصال، وتشرك كل أصحاب السأن السوداني في حوار جامع.
مضى التجمع الوطني الديمقراطي الذي هيمنت عليه الحركة الشعبية (بعد خروج حزب الامة منه) في تأييد اتفاقية نيفاشا حيث رأي في بندقية الحركة الشعبية تخليصاً له من دولة الإنقاذ الدينية، ومجالاً لتحقيق الديمقراطية، فخاب فأله إذ اقتسم حملة السلاح : الإنقاذ والحركة الشعبية السودان فأخذت الحركة جنوب السودان وأخذت الإنقاذ شمال السودان ولا عزاء للديمقراطية رغم أنف اتفاق القاهرة بين التجمع والإنقاذ الذي صار حبراً على ورق.
واكتفى قادة التجمع الوطني بمقاعد بائسة في برلمان هيمن عليه الشريكان : ذبحت الحركة الشعبية الديمقراطية قرباناً للانفصال وذبحت الإنقاذ الوحدة قربناً لاستمرارها في حكم الشمال وجرجرت بقية التجمع الوطني أذيال الخيبة فلا وجدت الوحدة ولا الديمقراطية.
(5)
وساطة الايقاد ٢٠٢٣ هل يعيد التاريخ نفسه؟
***
بنفس العيوب الهيكلية السابقة مضت الايقاد في التوسط في حرب السودان الحالية. وكنا قد أخذنا في مقال سابق بعض المآخذ على وساطة الإيقاد الحالية بُغية تصحيحها، ولكن نجمل عيوب هذه الوساطة في الآتي :
* ان من شروط الوسيط ألا تكون له مصلحة مباشرة مع أطراف النزاع ( interested party) وهذا ينتفي في وساطة الإيقاد. فأثيوبيا لها نزاعات حدودية مع السودان وخلافات في مشروع سد النهضة. وكذلك جنوب السودان له نزاع حدودي وهكذا.
* أن الوساطة تخلت عن مبادئ المنظمة وهي منظمة حكومية فلا يمكن أخذ خطوات دون التشاور مع الحكومة المعنية دعك من أن التشاور مع الطرفين مهم لنجاح الوساطة. ففي حرب الحكومة الاثيوبية مع التقراي لم تتدخل الإيقاد نسبة لرفض حكومة اثيوبيا أي تدخل في المشكلة وقرارها المعلن بحل الصراع عسكرياً باعتباره تمرداً. أما في حالة السودان فلم تكتف بعدم التدخل بل مضت في فرض رؤيتها للحل دون تشاور.
* أن المبادرة فقدت أهم شروطها وهو الحياد – على الأقل في نظر أحد الأطراف – هذا مع العلم بأنها ليست محايدة في حقيقة الأمر. وسنأتي على شواهد ذلك.
* ان المبادرة كررت خطأ تجربتها الأولى مع السودان في مشكلة الجنوب حينما اقترحت اعلان مبادئ دون تشاور مع علمها برفض حكومة الإنقاذ له. فقد اقترحت قمة الايقاد خريطة طريق واجراءات لا يمكن أن يقبلها الجيش اذ تُخِلُّ بالتوازن العسكري منها اقتراح نزع السلاح من العاصمة مع علمها بأن أهم أسلحة الجيش الأساسية تقع في العاصمة. ومنها مقترح حظر الطيران ومنها مقترح إدخال قوات افريقية للسودان دون التشاور معه وكلها مقترحات توضح انحياز المبادرة هذا فضلاً عن دعوة قوى سياسية محددة ومقابلتها واستبعاد قوى سياسية أخرى على هامش القمة.
* ومن عيوبها عدم التحضير الجيد الذي أنتج تلك المقترحات والذي قاد المنظمة لتوهم حل سحري بمجرد أن يجلس قائدا الطرفين المتقاتلين. النهج المنطقي في كل العالم أن تجلس لجان أو فرق تفاوض لمناقشة النقاط الخلافية واجراءات بناء الثقة ووقف العدائيات ووقف اطلاق النار ثم يرفع ما يتفق عليه لقائدي الفريقين المتفاوضين للتوقيع أو لحسم النقاط الخلافية لا أن يُبدأ بالقادة.
* وبالطبع من عيوب المبادرة ضعف المنظمة ودولها وحاجتها لرافع أقوى مالياً وعسكرياً مما يجعلها عرضة للاختطاف أو التسخير لخدمة أجندة تلك الروافع.
كان شركاء الإيقاد في حرب جنوب السودان هم أمريكا وأوروبا وما زالوا في التجربة الحالية ولكن دخلت الإمارات كأقوى رافع لمبادرة الإيقاد الحالية وهي طرف غير محايد في الصراع منح دعمه العسكري والمالي والسياسي والدبلوماسي واللوجستي والاعلامي للدعم السريع دون مواربة، وتبعتها بعض دول الإيقاد نفسها مثل تصريحات أبيي أحمد ووليم روتو التي كانت لم تعترف بحكومة الامر الواقع في السودان في القمة التي تفجرت فيها الأزمة بسبب تصريحاتهما بوجود فراغ حكومي في السودان.
* ومثلما أقصت مبادرة الإيقاد الأولى حلفاء الإنقاذ من الدول العربية، أقصت المبادرة الحالية وغيّبت الدول الأخرى مثل مصر وقطر وتركيا وغيرهم والذين قد يُسهم حضورهم في خلق توازن في الوساطة.
ولا يُرجى أن تسفر القمة الحالية عن أي شيء (لا سيما مع تزامنها مع مسألة الصومال واثيوبيا) إذ صاحب الإعداد تخبط وغموض تسبب في عدم انعقاد لقاء الجنرالين – على عدم جدواه- في جيبوتي في 28 ديسمبر 2023. فقد أرسلت جيبوتي رسالة لخارجية السودان مفادها أن ظروفاً قد حالت دون مجيء حميدتي، وحددت موعداً في يناير 2024 ثم أصدرت بياناً ذكرت أنها دعت الدول الأعضاء والشركاء لحضور القمة لمناقش قضية السودان ولم تتحدث عن مصير اللقاء الثنائي الذي يجمع الجنرالين بل تحدثت عن مناقشة جماعية لقضية السودان.
كل هذه الأخطاء التحضيرية لم تؤخذ بحسن نية من قبل حكومة البرهان في ظل كل العيوب والسياقات السابقة.
(6)
الايقاد مهددة بانقسام كبير:
ومع كل ما ذكرنا من معوقات أمام مبادرة الايقاد فقد حدث انقسام كبير بسبب قضية مذكرة التفاهم التي وقعتها الحكومة الإثيوبية مع دولة أرض الصومال ( وهي دولة غير معترف بها دولياً) بشأن ميناء بربرا دون التشاور مع دولة الصومال وهو ما أعتبر خرقاً للأعراف الدبلوماسية الدولية. وكان أليكس دي وال الكاتب المتخصص في الشأن السوداني والقرن الافريقي قد حذر من سلوك دولة اثيوبيا العدواني ووصفها بالدولة المارقة في ظل تحالف أبيي أحمد مع الإمارات، فقد صرح أبيي أحمد بأن إثيوبيا لن تظل حبيسة وستحصل على ميناء سلماً أو حرباً.
زادت مذكرة التفاهم التوتر في الإقليم حيث رفضت الصومال الاتفاق وهدد رئيس وزرائها حمزة عبدي بري بالحرب دفاعاً عن بلاده. بينما استقال وزير دفاع أرض الصومال، عبد الغني محمود عاتيي، من منصبه احتجاجا على الاتفاق.
وظهرت بوادر تشكُّل محور أو حلف جديد صومالي اريتري مصري سوداني مقابل اثيوبيا وحلفائها.
ولا شك أن قضية ميناء أرض الصومال والانقسام حولها ستهدد نجاح قمة الايقاد الحالية بل وتهدد المنظمة نفسها بالتفكك.
ولن يقتصر هذا الاستقطاب على دول المنطقة بل سيجر استقطاباً وصراعاً دولياً واقليمياً لأنه يخلط الأوراق في منطقة بالغة الحساسية.
(7)
دعوة للعقل السياسي السوداني للنظر الاستراتيجي
***
وبالعودة لموضوعنا الأساسي هلّلا جلس العقل السياسي السوداني بمختلف تياراته لينظر إيجابيات وسلبيات ومخاطر الوساطات الجارية على مستقبل بلادنا ؟ وهلّا جلس واسترجع تجربة وساطة الايقاد التي انتهت بفصل الجنوب وزرع بذور الحرب في المنطقتين؟ هل نقبل بغض النظر عن حكومة الأمر الواقع أن نرهن مستقبل بلادنا لأجندة أجنبية لا يهم حكام السودان منها غير الاستمرار في كراسي الحكم ثم تقع نتائج أفعالهم على السودان ووحدته ويدفع ثمنها الشعب السوداني أم نتصرف بمسؤولية بأن هذي البلاد تخصنا ولن نتركها لنزوات حكام أو لمكايدات سياسيين قصيري النظر .
أضاعت الانقاذ جنوب السودان بسياساتها الرعناء وبجشعها وطمعها في السلطة وأفلت السودانيون الفرصة في الضغط لمنع ذلك فهل نتعظ مما حدث أم يعيد التاريخ نفسه ونكون نسخة افريقية من آل بربون.
( 8 )
إصلاح الوساطات وعملية التفاوض
***
خُصص منبر جدة لقضايا وقف إطلاق النار وللقضايا الإنسانية. واشتمل على دولتين هما أمريكا والسعودية في التوسط أو التسهيل ( ما يقومان به ليس وساطة بالمعنى العلمي وليس تسهيلاً). بينما يطمح منبر الايقاد إلى مناقشة القضايا السياسية. ولإصلاح العملية أرى الآتي:
1) حسب الترتيب المنطقي للأشياء يصعب الدخول في القضايا السياسية قبل وقف إطلاق النار والقضية الإنسانية، لذلك من الصعب الشروع في مناقشة القضايا السياسية مثل شكل الدولة وطبيعتها ونظام الحكم وعلاقاته الإدارية الخ ، المطلوب ترتيب الأولويات والتركيز في وقف إطلاق النار وتهيئة الأجواء له لمخاطبة القضية الإنسانية.
2) المنبر المناسب:
– من حيث الوسطاء لا بد أن يكون متوازناً فلا يمكن أن يكون رعاة المنبر منحازين لطرف أو أن ترتبط مصالحهم معه ولا معادين لطرف. إصلاح المنبر يكون بإدخال دول له تعيد ذلك التوازن بحيث يضمن كل طرف أن الوسطاء يستمعون لمنطقه: مثلاً يمكن إضافة الامارات ومصر وتركيا وقطر إضافة لدول الإيقاد وأطراف منبر جدة: أمريكا والسعودية.
– من حيث الحضور: في بند وقف إطلاق النار إدخال الحركات المسلحة في المنبر، أما في القضايا السياسية العامة فلا بد من حوار سوداني – سوداني جامع لا كالحوار الذي اختارته وساطة الايقاد بدعوة مجموعة سياسية تمثل وجهة نظر واحدة.
3) إذا استوفت الوساطة هذه الشروط فيمكن أن يكون المنبر بمسمى الايقاد الموسع ( الايقاد +) ) IGAD + ( حيث يكون المقر والدعوات الخ باسمها.
أو يكون منبر جدة الموسع كما حدث في آخر جولة له بحضور الايقاد أو منبر جديد بنفس الفكرة والمحتوى.
والله ولي التوفيق.
عبد الرحمن الغالي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.