كتب: عمر خليل
.
وكلما اقترب شهر يناير نكتشف اننا قد تمادينا في اهمال جزء كبير من تاريخنا الفني والموسيقي في السودان ويظل شهر يناير محفزا لنا لنتجمع ونتفق علي ان هذا التاريخ يجب ان تعاد دراسته وبشكل اكثر جديةوعلمية وعمق.
مرت علينا في السابع عشر من يناير الجاري الزكري الثامنة والعشرون لرحيل الاستاذ مصطفى سيداحمد وهي لعمري ثمانية وعشرون سنة من عدم القدرة علي سبر اغوار التجربةوتفاصيها ومحاولة معرفة سر توهجها و الاجابة علي كثير من التساؤلات الملحة حولها ولعل اهم سؤال هو ( ما الفتح الجديد الذي اضافه مصطفى فنيا موسيقيا) وحسب متابعتي للكتابات التي تناولت تجربة مصطفى خلال السنوات الماضية فقد راي بعض الباحثين الموسيقيين بان تجربة مصطفى وبكل زخمها لم تاتي بجديد من خلال الطرح الموسيقي واقتصر رايهم حول التجديد في الاشكال الشعرية والفكرية مع التاكيد علي تميز خامة صوت مصطفى والمدي الصوتي الكبير والواسع الذي يتيح له التحرك بسهولة من النوتات الغليظة والوسيطة وحتي النوتات الاكثر حده ..واقتصار الحان مصطفى علي القدرة العالية في التصوير اللحني للمفردات الشعرية.
ولكن بمعلوماتي وخبرتي الموسيقية البسيطة ومتابعتي اللصيقة لتجربة الراحل مصطفى لا اتفق مع هذا الراي واري ان تمدد تجربة مصطفى واتساعها والغزارة اللحنية وخاصة في الفترة الاخيرة قبل رحيله هي السبب الاساسي في تغبيش الرؤي والافكار حول التجربة اللحنية حيث ان كثير من المقيمين حاكموها بشكل مجتزا ولم يدرسوا التجربة بشكل كامل حتي يلموا بكامل تفاصيلها واشكالاتها واشراقاتها.
ويمكن تقسيم تجربة الاستاذ مصطفى سيداحمد عبر تاريخها الي ثلاث مراحل.
المرحلة الاولي وهي التي يمكن التاريخ لها منذ بداية السبعينات وحتي بداية الثمانينات واتسمت هذة المرحلة بالتلقائية والموهبة الصوتية العالية والرغبة الاكيدة في تشكيل الذات الموسيقية والفنية واتسمت فيها الاعمال بترديد اعمال الغير في بداياتها وانتاج اعمال خاصة عبر ملحنين مختلفين امثال ( يوسف السماني _ محمد سراج الدين _ سليمان ابوداؤود_ فتحي المك _ علي السقيد) وكانت فترة تميزت بالثرا اللحني والتنوع في الاشكال الموسيقية عبر اختلاف تلك تلك المدارس اللحنية.
وفي المقابل تميزت المفردة بالبساطة والمباشرة وهو ما يعتبره البعض ( ضعفا) ومن نماذج الاعمال في تلك الفترة ( الرسالة _ الشجن الاليم _ غدار دموعك _ حسنك بديع _ السحاب لو خاصمنا وتعب_ من بعيد لبعيد (جرح الحب) -لو بريدك يعني مالو ).
جاءت بعدها المرحلة الثانية والتي نؤرخ لها بعد دخول مصطفى للمعهد العالي للموسيقي والمسرح في اواخر السبعينات وتزامن معها اختلافه مع بعض الملحنين فقد اثر بعدها تطوير ملكاته اللحنية واكتسابه المعرفة الاكاديمية ووجود الزخم الكبير من الموسيقيين السودانيين بالمعهد والاساتذة الكوريين فقد انتجت تلك الفترة اعمال موسيقية ذات طابع تميز بالرصانة الاكاديمية والموهبة العالية وتطورت التجربة واصبحت تتجاوز المالوف في الالحان وشهدنا طفرة فنية لم تشهدها الساحة الفنية السودانية منذ محمد وردي وتميزت تلك المرحلة بالاستقرار والتجويد الموسيقي والحرفي لذلك اعتقد جازما بان انجح الاعمال التي انتجها مصطفى سيداحمد كانت في هذة المرحلة ومن اهمها ( وضاحة _ في عيونك _ المجدلية _ يا ضلنا _ حاجة فيك _ عجاج البحر_لمحتك _اخوان الانسانية _واقف براك _المسافة _جواز سفر _صابرين _أجراس العودة ).
وبنهاية المرحلة الثانية بدات رحلة مصطفى مع المرض والذي اجبره علي السفر خارج البلاد مستشفيا تارة في روسيا واخري القاهرة واخيرا الدوحة.
وكانت المرحلة الثالثة والاخيرة من تجربة مصطفى والممتدة منذ خرجه من السودان في مايو 1990 وحتي وفاته في يناير 1996 هي مرحلة مختلفة تماما عن المراحل التي قبلها من حيث كل المعطيات فكان المرض والمعاناة والغربة عن الاهل والوطن بالاضافة لعدم وجود فرقتة الموسيقية لذلك انتهج نهجا مغايرا حيث لجا لكثافة الالحان ومحاولة مسابقة الزمن لانتاج اكبر قدر من الالحان مما اوقعة تحت طائلة التكرار اللحني ولكن يجب ان ننتبه الي ان كثير من تلك الاعمال لم يقدمها مصطفى للجمهور بل كان معظمها مشاريع لاعمال لحنت بالة العود لم يسعفه المرض ولا الزمن ليتمكن من تنفيذها موسيقيا بالشكل الذي يريد وللاسف تسربت تلك الاعمال وبشكل شخصي واصبحت متداولة بشكل جماهيري وتمت محاكمة تجربة مصطفى من خلالها دون الرجوع والاستناد للاعمال المكتملة والتي انتجها قبل خروجه من السودان وايضا التي انتجها في القاهرة ١٩٩٠ بصحبة الموسيقار الموصلي.
وفي راي الشخصي البسيط ان هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد تجاوز تجربة مصطفى لمربع التجديد الموسيقي بمراحل حيث ان اعماله اتسمت بالبناء اللحني المتماسك والتمرحل في في عملية التلحين من ( مقدمة موسيقية _ الي الاستهلال الغنائي _ وحتي الذروة اللحنية ثم الختام الموسيقي) مع معرفة جيدة في التأليف الموسيقي اكتسبها بدراسته وعدم لجوء مصطفى للالحان الدائرية في الكثير من اعماله حيث ان العمل منذ بدايته وحتي نهايته تتنوع وتختلف الجمل الموسيقية مما يشكل زخم جمالي ويبعد الملل والرتابة ويمثل هذا الثراء اللحني مع تماسك البناء الشكلي العام للعمل الفني لوحة موسيقية تنساب الي المتذوق بشكل سلس ليس فيها أي شكل من أشكال التصنع الحرفي او الارتجال او البأس الشعر قوالب لحنية غير مناسبة إنما يتداعي للمتذوق بان هذا الشكل اللحني قد خلق ليلائم تلك الكلمات.
ويمكن الاشارة لاعمال بعينها لمصطفى للتدليل بتجديدها الموسيقي واللحني
( جواز سفر _ المسافة _ اسئلة ليست للاجابة _ مريم الاخري _ لمحتك _ الحزن النبيل).
عمر خليل
بورتسودان
17 يناير 2024