هل يمكن حل اجسام قاعدية؟

0 79

كتب: محمد فاروق سليمان

.

دائما ما توقفت عند مطالب كثيرين بالحكم المحلي اثناء الثورة بطريقة مختلفة للتوقف عند كامل نظامنا السياسي، والصورة المقلوبة التي اعطت الدولة المركزية فيها نفسها سلطات محلية لم تقدر عليها ولم تمارسها الا استبداداً وتبديدا لمفهوم السلطة الحديثة القائمة على مفهوم اجهزة الخدمة التي تتحقق بالجدارة، والتفويض في احيان ايضا ولكن ليس الفضول باية حال، سواء بالتجني على الكفاءة (وهي مسالة موضوعية) التي تتحقق عبرها الجدارة، او التجني على الاستحقاق الذي يحكمه التفويض (وهو قد يكون مسالة ذاتية يحاول اي نظام سياسي ان يجعلها موضوعية ايضا)، لكن ما يهم في السلطة المركزية انها ومنذ الانظمة الملكية ظلت تنظر للسلطة كامتياز، يتم عبره تمييز في الحقوق بغض النظر عن الواجبات، والتي قد تكون شرط موضوعي، اي الواجبات والقيام بها، ليصبح الصراع حول السلطة نفسه صراع حول امتيازاتها، وليس تدافع للقيام بواجباتها!

طوال سنوات الانتقال تابعت احيانا عندما قامت لجان بعض الاحياء في العاصمة مثلا بحراسة دقيق الخبز في المخابز، وبشكل مباشر وفي الحي الذي اسكن به شهدت توزيع الغاز الطبيعي ايام ندرته عبر هذه اللجان، ولا احسب في اي من هذا من سلطة، فقد قام هؤلاء الشباب بتقديم خدمة بشكل طوعي، حاولت بعد اطراف حكومة الانتقال تصويرها كسلطة وحيدة يمكنهم القيام بها، وربنا تشغلهم عن تنظيم المواكب في مواجهة نكباتها، ولكن هذا لم يشغل هذه اللجان عن الاحتجاج، وان قاد لانقسام على مستوى القاعدة الاعرض للمواطنين وقاعدة جماهير الثورة نفسها بين لجان فوقية تحاول خدمة اجندة الحرية والتغيير واخرى تهدد هذه الاجندة، دون القيام بدور حقيقي في تخلق سلطة محلية، منتظرة ان يتم ذلك من خلال اكمال هياكل الحكم في الانتقال!

اتابع الان قرارات بدات من بعض الولاة المكلفين بحل لجان الخدمات والتغيير، وهو الاسم الذي اتخذته الحرية والتغيير في نسختها الاخيرة لهذه اللجان مقابل لجان المقاومة في الاحياء التي واصلت في الاحتجاج لتحقيق مطالب الثورة من خلف هتاف “بي كم بي كم قحاتة باعو الدم” ضد من اعتبروا انفسهم قوى الثورة من قادة الحرية والتغيير بعد نموذج الشراكة المضطرب مع العسكر، وفي اقاليم مختلفة تخضع لسيطرة الجيش تحول قرار بعض الولاة الى قرار مركزي، وبدا واضحا بالنسبة اليهم انها معركة يمكن تصويرها ضد الدعم السريع في ظل عدم القدرة على خوض معركة حقيقية معه في ولايات لم تصلها الحرب بعد، وبعيد عن البال الفايق لحكام الغفلة المكلفين هؤلاء، الا ان الامر اصبح كدعاية جيدة للتغطية على خيبة سقوط مدينة ود مدني المفاجيء حتى للدعم السريع نفسه دون اي معركة! ليختار هؤلاء الحكام المكلفين معركة اخرى، ربما تنجح كتعويذة في قفل سلسلة المفاجآت في خسارة المعركة العسكرية، وينشغل جمهور الحكام والمحكومين في تصور عدو اخر، موجود بينهم يمثل الطابور الخامس للغزاة..

رغما عن كون ميلاد مصطلح “الطابور الخامس” ارتبط بتعريف موقف الشعوب المحتلة الطبيعي في مساندة مليشياتها الوطنية في معارك تحررها، ظلت تردده بغباء الانظمة الاستبدادية واضعة نفسها موضع المحتل، وكانما لا تعي انها تسب نفسها بهذا الوصف لوجود طابور كامل من الجنود بين الشعب ضدها! وليست افراد منتقين يعملون بالقرب من النظام وداخله كاساس اي عمل استخباراتي في اي معركة عسكرية، قد يكونون بعض الحكام والولاة والقادة العسكريين باكثر مما يكون مواطن عادي او اي من اعضاء اللجان التي قد لم يسمع بها كثيرين قبل قرار حلها هذا، وتصويره كحرب على الثورة من قبل الجميع..

ليس المضحك هنا هذا الصراع المتخيل بين ولاة الحكومة المكلفين، وقادة الحرية والتغيير المكلومين بعد الانقلاب الذي كلفهم (وهو بالمناسبة انقلاب قام به طرفي الحرب الان!) كون قرارات حل هذه اللجان اشبه بمن يقوم برمي الطعمية خارج الصاج، بينما يصيح حكام الامس “تششش”، ولكن المضحك انه لا توجد طعمية هنا يتم رميها، بينما الطرفين في الواقع يصيحووون طاااش…

ففي الحقيقة لم توجد ابدا مستويات للحكم المحلي كما هي موجودة الان في السودان، ولم تتخلق فاعلية للجان العمل القاعدي في تقديم الخدمات كما ينشط سودانيون وسودانيات في كافة اماكن وجودهم لمد اسباب الحياة للاهل في مناطق سيطرة الطرفين، كما لم تنشط حركة مجتمع مدني بمثل ما يقوم به متطوعون ومتفرغون دون ذكر اسماء لمنظمات وافراد في المهجر والاغتراب في لملمة جراح هذه الحرب وتعاضد الناس بعضها مع بعضها، حتى اصبح هذا هو الكفاح الوحيد من اجل الحياة للنازحين والاكثر هشاشة ممن لم يقدروا على النزوح، في ظل تعثر كل اشكال الكفاح لانهاء الحرب دوليا واسفيريا ..

لا يستطيع والي او حاكم ان يحل المطابخ المركزية في مناطق سيطرته، ناهيك عن اماكن سيطرة غيره او داخل معسكرات النزوح، كما لا تقدم السلطة المركزية حتى مرتبات العاملين في الدولة، كما لن يمنع احدا كثيرا من الاطباء الذين عادوا الى قراهم وواصلوا هناك تقديم دورهم العلاجي، في الحرب لا توجد سلطة مركزية ولا حتى على الجيوش التي تحل فيها الارتكازات محل هيئة الاركان، ومزاج الافراد المسلحين يكتب الحياة او الموت للمدنيين باكثر مما يستطيع القايد العام ان يفعل او يريد، ويكتب النجاة للناس هذا التشبث القاعدي بالحياة والذي يحيد قايد الارتكاز في منطقته ويفاوض طرفي الصراع في اوقات تنقله، حتى قبل قبول الطرفين بالتفاوض او الاعلان عن جلوسهما!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.