عبد الخالق محجوب: من البركل إلي حي العرب غضبة أخرى (٢-٢)

0 129
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
فصل من رواية عن سيرته في ذكرى ميلاده الثالث والتسعين
(نشرت أمس جزء من الفصل الأول من روايتي “الرجل الوسيم” فيها سيرة أستاذنا عبد الخالق محجوب. وجاءت في الفصل واقعة من طفولته احتج فيها على حبوبته آمنة بت علي فور في حي العرب وغادر دارها مغاضباً إلي بيت أسرته في السيد المكي. وفي هذا الجزء نعرض لغضبة من حبوبته ذاتها كانت السبب في انتقالهم من بلدة البركل من دار الشايقية إلى حي العرب بأم درمان في نحو ١٩٢٠. ولأن هـذه السيرة رواية تجدني أطلقت عنان خيالي من فوق مادة عن حياة أستاذنا توافرت لي من بحث عنها لعقود ثلاثة. وكنت نشرت من قبل فصلاً عن زواجه على هذا الغرار)
تركنا الحبوبة آمنة بت علي فور معانقة ابنها محجوب. وكان محجوب جاء من السيد المكي إلى حي العرب ليطمئن أمه بأن عبد الخالق، الذي كان هرب من بيتها مغاضباً، قد وصلهم سالماً.
كانت آمنة بت علي فور كلما احتضنت ابنها محجوب وجدت يدها تمتد إلى عينه اليسرى. كان ذلك منها لا إرادياً. وبدا لها بمثابة طلب خفي حثيث للعفو منه. فلم ينفطر قلبها عليه إلا يوم جاءها طفلاً والدم قد نبع من عينه اليسرى على سائر وجهه. والأطفال من حوله يقولون لها: “يمه آمنة. فلعتو التور فسا.” وعرفت أنه كان في روتين أطفال القرية يلاحقون مجنونة القرية يستفزونها صائحين: “التور فسا” فتقذفهم بالحجارة. وأصابت فلذة كبدها. فكتمت وجعها وأسرعت إلى الخس وعادت بحبات فلفل أسود مضغتها ووضعتها على عينه. وأرقدته على حجرها تراقب نزول الألم عنه، وتجفف الدم من نبع عينه، وهدأته. وعرفت أن نظر الولد الأمانة اليتيم لن تسلم. وليس بوسعها عمل المزيد. وطاف بها في ضعفها وقلة حيلتها طائف والده الذي رحل عنه وهو ابن سنتين بعد. فأجهشت بالبكاء بعد أن اطمأنت لنومه في حجرها. ونظرت من خلال الدموع إلى المستقبل كأن فيه العزاء. ودعت:”يتيم يا ربي تغطيهو وتسلمو من كل شر”.
وظلت يد آمنة من يومها تمتد دائما إلى عينه اليسرى بحركة غير إرادية تستعيد وحشتها مع ملمس الدمع الذي انبثق منها في طفولته. دموع محجوب. ولم تكن تلك مرتها الأول التي تستنطق بأصابعها بصمة الدم القديمة على عينه. وكان هذا منها بمثابة ميثاق مع محجوب صار فيها طبيعة ثانية. فقد أرخت تلك الدموع لـتأريخ هجرتها من البركل إلى أم درمان. لقد استنشقت بتلك الدموع، وهي في البركل ما زالت، عبير النجاة من مهانة القرى. فكان محجوب حصل على وظيفة بالري المصري بعد تخرجه من مدرسة عبري الابتدائية. وأعانه على ذلك ابن عمته عبد الحميد علي خيري المحسي سائق القاطرة بالسكة الحديد الذي سكن معه بدلقو طوال سنوات الدراسة. وجاء البركل لتحتفل به الأسرة. زغردت آمنة ووزعت الشاي واللقيمات على الحضور. ولكنه عاد يوماً من الشغل ليجدها ترجف غضباً وتستعبر. قال لها:
-يمه مالك؟
-ما عندي قعدة في البيت دا تاني يا محجوب يا ولدي.
وما انصرف الناس حتى اختلت آمنة بمحجوب. فنظر إليها ووجد الوجه الذي بح بالزغاريد قد اكتسى حزناً عميقاً كاد يحفر نفسه على صفحته. فأسرع محجوب قائلاً:
-يمه مالك؟ ما كنا أسع في زغاريد.
-يا ولدي وكت الحمد لله استوظفته دايراك تمرقني من البركل الليلة قبل باكر.
-يمه حصل شنو؟
-ما عندي مقام فيها. ختيتلها الختة. لو بقت جنة دا طرفي منها.
-يمه مالك؟ دا كلام شنو يا يمه؟ الغلط عليك منو؟
-منو بلا جدك علي فور.
-عمل شنو؟ قال شنو؟ سوا شنو؟
-بقيت أنا يا محجوب أغسل لي تمانية (تمانية وهي غطاء ثقيل من الدمور في حجم اللحاف) بت أم رشوم مرتو؟
-وام رشوم مالها ما بتغسل تمانيته؟
-معززها. مالها شديدة ومانعة وتغسل مية تمانية.
-صدقتي.
-لكين معجنها فوق الخادم الجايبنها من الجبال دي.
وانفعلت. ونهنهت. ثم بكت.
-يمه لا تبكي. القاسي يهون.
-ووكت قت لا ما بغسل تمانية أم رشوم. مالها ما بتغسلها هي المانعة الشديدة اللضيضة. رفع عكازو وضربني فوق راسي كع كع نامن عيوني شافن طشاش طشاش.
-يمه يمه
-سماحة قال لي كمان دايري تسحريها. وخلاني دمي يجدول من راسي وما هماهو. عاد يا ولدي فرد جريه للخس. ربطت شقي الفي الراس بطرحتي ودقت لي أمي بن سويتو في الجرح.
-لا حولا يا يمه. دا جدي. دا انحنا أمانة عندو؟
-وحلفته من يومي داك ونضرته تاني كباية موية ما اشربه في بيتو. وخادم أم رشوم دي القدامك دي بقت من يوما داك في شغل الطواقي وأبيعهن في كريمة ومروي مستورة أحمد يا ربي.
ثم التفتت إليه:
-أنا أمك يا محجوب. جدك يسويني عول لام رشوم. أها أنا من اليوم داك حلفت مقسمة بالله البركل دي سايباها ليهو ولأم رشوم. هو رحمه الله مات لكن يا ولدي نفسي كجنت البركل دي ضمه.
وأجهشت بالبكاء. ولم تشعر إلا ويدي محجوب يطوقانه من الجهتين:
-من باكر أكلم عبد الحميد ينقلني الخرطوم. ولما تلمست عينه اليسرى لا إردياً كانت تقطر دمعاً. لا. بل دماً.
ويذكر محجوب تلك النقلة من القرية للمدينة كأنها حدثت أمس. جاءت معه أمه وجدته بشرية بت الشيخ والأم آمنة سليم، وخالته ستونة وزوجها الفقير حسين ويونس والزلال وآدم. وصحبتهم حتي زوجة جده بت ام رشوم صاحبة القضية التي تركوا لها البلد. وهي أم درمانية من ناس السماسرة بحب المسالمة. ونزلت الأسرة حي العرب في أم درمان الذي سكنه عرب الحسانية تجار الجمال، ومنهم عمال معاصر الزيوت، وجماعة كبيرة من الحلب مثل ود الجحمانة وزوجته كلوت، وزينب بت على جابر وابنها أنبوبة وود قِليم. وارتحل منه ٌلى حي السيد المكي بعد زواجه في ١٩٢٤ بينما بقت آمنة بت فور مع بقية أهلها بحي العرب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.