تحطيم الدولة للكسب السياسي

0 84
كتب: د. النور حمد
.
عانت الدولة السودانية منذ الاستقلال من انعدام الثوابت الوطنية. فكل ضابط للفعل السياسي السوداني بقي مرتكزا على رمال متحركة. فما يهم القوى السياسية في السودان هو الكسب الآني. ولا يهم إن قاد هذا الكسب الى هدم ثوابت الدولة وركائزها. شهدت ديموقراطياتنا الثلاث الكثير من الائتلافات. يحدث الائتلاف حين لا تمكن النتائج الانتخابية أي حزب الحكم بمفرده فيضطر من أجل احراز أغلبية في البرلمان إلى أن يأتلف مع حزب آخر. وقد قاد الحرص على المناصب إلى أن تأتلف أحزاب لا يجمع بينها جامع. بل إن بعض أركان الائتلاف في فترة بعينها يتحولون إلى حالة عداء حادة في فترة جديدة لاحقة، تكون فيها الخريطة السياسية قد أخذت شكلا آخر. والأمثلة لهذا من تجاربنا البرلمانية “على قفا من يشيل”. لقد تفننت بعض الأحزاب في إثارة الاضرابات المطلبية، لا تعاطفا مع حقوق العاملين وإنما لإرباك من هم في السلطة وافقادهم الاستقرار والقدرة على الإنجاز ليكون فشلهم هو مركب المعارضة الذي يأتي بها إلى مقاعد الحكم. لا تتردد قوانا السياسية في إنتهاج أي أسلوب يمكن أن يمنحها كسبا سياسيا آنيا. ولقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تفننت الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحاديون والإسلاميون) في خلق الندرة في السلع في فترة حكم نميري. وكيف تفنن الشيوعيون في تحريك نقابة عمال السكة حديد لزعزعة حكم نميري ما قاد إلى انشاء ما سميت الكتيبة الاستراتيجية العسكرية التي تدير حركة السكة حديد في حالات الإضراب. وقد قاد كل ذلك إلى تكسير المرفق نفسه على يد نميري ثم على يد الاسلاميين في نهاية الأمر. وهذه هي نتيجة العبث بثوابت الدولة واستحلال هدم ركائزها.
شاهدت بالأمس فيديو مصور من نافذة سيارة تسير على واحد من الطرق السريعة. وقد قطعت تلك السيارة التي جرى منها تصوير ذلك الفيديو قرابة الكيلومترين. وقد كانت تمتد على طول تلك المسافة مئات وربما الآلاف من براميل الوقود المنتشرة بمحاذاة الطريق، إضافة إلى الشاحنات المتوقفة، ما يدل على أن سوقا مفتوحا للمواد البترولية يجري هناك، (على عينك يا تاجر). إن أول ما يعكسه هذا الشريط هو أن ما تسمى الدولة السودانية لم يعد لها وجود. فنحن نعلم أن هناك شرطة للمرور السريع وهناك ولاة ومحليات وحكم محلي ومسؤلون تنفذيون فأين هم من هذا الانحلال الدولتي المقرف؟ هل هذه بلاد يرجى لها أن ينصلح حالها؟ والأنكأ من هذا أن المواطنين هم من يصورون هذه العورات ويبثونها على وسائط التواصل الاجتماعي، في حين ينشغل الإعلام الرسمي بالتفاهات وسفساف الأمور. أيضا، أين صحافتنا وتقاريرها الاستقصائية من هذا الانحلال الدولتي المريع؟ أين يقع هذا السوق؟ وتحت إدارة من تقع هذه المنطقة؟ إن أعتياد قبول مثل هذه الممارسات يعني أن نقرأ الفاتحة على روح الدولة السودانية وحكم القانون فيها.
لا شك عندي أبدا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين قوى مختلفة من عسكرية ومدنية غرضه إفشال الفترة الانتقالية. ويبدو أن هذا العمل قد حقق حتى الآن نجاحا كبيرا. فالأزمات بمختلف صورها لا تزال ترواح مكانها. وقد أصبحت ما سميت الحاضنة السياسية وحكومتها مجرد “هنبول”، “لا يهش ولا ينش”. وحين نقول إن أزمتنا أزمة بناء نفسي قويم وأزمة أخلاق وأزمة ثوابت دولتية، يخرج علينا حفظة الألفاظ الفارغة ليصرفونا إلى ما اعتادوه من نمط الاستعاضة بالكلمات الرنانة عن الدلالات. من يريدون إفشال الفترة الانتقالية قد ينجحون، لكنهم حتما سيفشلون في ترميم ما خربوه. ولسوف يشربون من نفس الكأس التي سقوا منها شعبهم. فتخريب النظم قابل للإصلاح، لكن تخريب الإنسان يصعب إصلاحه. ما عكسه ذلك الفيديو يدل على أن تخريب الإنسان في بلادنا قد بلغ شأوا بعيدا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.