الإمام الصادق المهدي: راتب المهدية الثالثة
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(رحل عنا الإمام السيد الصادق المهدي الذي كان أقرب من عاشرت إلى قبيلنا معشر الكتاب. وكان كاتباً غزير الإنتاج يريد به عقد السياسة والثقافة في الحلال. ولكم عجبت لصبره الجلوس في منابر العلم يصغي بمسؤولية لما يقال بينما يضيق من دونه طلباً على وقته فيدخلون ويخرجون. ومتى استدعى الظرف خروجه لم ينس أن يعتذر بدماثة لأهل المنبر.
وأعيد، بمثابة وداع لذلك الرجل الهيبة النادر، نشر كلمة لي في تثمين كتابه “الإنسان بنيان الله: القضية الإنسانية” )
انعقدت بقاعة الشارقة ندوة لمناقشة كتاب الإمام الصادق المهدي الأخير الذي عنوانه “الإنسان بنيان الله: القضية الإنسانية”. وكنت ضمن جماعة ابتدرت النقاش فيها الدكتورة فدوى عبد الرحمن على طه والدكتور حسن الساعوري. وحوى الكتاب تسعة فصول هي مساهمات الإمام في منتديات عالمية ناقشت القانون الدولي لحقوق الإنسان في السلم وفي فورات الاقتتال. استبشر فيها بالتطورات الأوربية التي جعلت حقوق الإنسان ميثاقاً تواضعت البشرية المعاصرة عليه. وأراد الإمام بمساهماته استنقاذ حقوق الإنسان المعاصرة هذه من خيلاء الوطنية التي يتستر بها طغاة في دولنا لينتهكوها محتمين وراء السيادة الوطنية. كما سعى الإمام لوقاية تلك الحقوق من عزة الغرب الطاغوتي بنفسه التي سوغت له إزدواجية المعيار. فهو ينهى عن شيء ويأتي مثله.
لم يسمح لي وقت المناقشة الشحيح بالتطرق لبعض آرائي عن الكتاب أو التوسع فيما بدأته منها. فلم أجد فسحة لأشيد بسعة معارف الإمام بالموضوعات التي عالجها. فقد وجدته في “حزا” مع ما يقرأ الغرب عن نفسه وعن الآخرين. وعثر على أكثر هذه المواد من شبكة الإنترنت. وأعجبني ضبطه للوقائع. فلا ينسى أبداً إيراد تاريخ وقوع الواقعة. ويسند حجته بالإحصاء. فهو يحصي عدداً انفاق إيران على برنامجها الذري قياساً بإنفاق كل من أمريكا وإسرائيل ليصل من ضآلة مصروف إيران على مشروعها إلى أن قوتها تما تزال في الحرب التقليدية. ومثل آخر احتج فيه بأن الشقة تتسع بين الدولة الغنية المسيطرة ودول الفاقة. فكانت بريطانيا أغنى 4 مرات من بقية العالم وقت عزها في النصف الأول من القرن العشرين. أما الولايات المتحدة في قرننا هذا فهي أغنى من الدول الفقيرة 20 مرة.
وتساءلت وأنا اقرأ هذا العلم النافع عن وسائط تنزيله إلى جمهرة الأنصار بمثابة تربية وتزكية. فسأشعر شخصياً بالقربى من الأنصاري الذي اطلع على فصول الإمام العميقة عن مسألة دارفور، وخطاب الرئيس أوباما للمسلمين، والتراضي الوطني في أسبانيا.سيكون بينناً قاسماً مشتركاً لم يتوافر لنا قبلاً طوال عهد المهدية الثانية التي اعتنت بعقيدة الأنصار واقتصادهم وعنفهم دون سواها. فمتى تسربت معارف الإمام هذه إلى واعية الأنصار وذوقهم صرنا في المهدية الثالثة التي هي بعث للمهدية الأولي: مهدية الراتب الذي هو خلاصة تربية الزهد والعزيمة والثورة. وسنتطلع إلى يوم تستقر تربية الإمام هذه في ماعون من شاكلة الراتب. وحذاري أن نستهين بشغف غمار الناس بالمعرفة بشبهة أنهم أميون أو أنهم مشغولون بالكدح في طلب الرزق دون الفكر. فهذا مجرد سوء ظن صفوي بالعامة.
توقفت عند نقد الإمام لعهد نيفاشا (2005) لخلوه من آلية معلومة التراضي والعدالة الإنتقالية. وبدا لي أنه بعد مرور أربعة اعوام على ذلك العهد ربما كان مثل هذا النقد مجرد فضح معارضين لنظام استبعدهم من حظيرة نيفاشا. والإمام أستاذ في فن التحامل على النفس طلباً للتراضي حقناً للدم. وهو الذي روج للعبارة: “من فش غبينتو خرّب مدينتو”. وعليه فآلية التعافي ليست حكراً على الحكومة تشاءها أو لا تشاءها. فبوسع المجتمع المدني أن يبادر فيها بما ربما فاق توقعنا من الحكومة. فقد دعوت حتى قبل نيفاشا، ومنذ منتصف التسعينات، أن نتواثق على الكشف عن قبور ضحايا عنف الدولة وغير الدولة. ظلت هذه القبور المضيعة هاجساً يؤرق أسرهم ومريديهم ويدنينا كأمة من الكفر. وقد أسعدني أن مركز الخاتم عدلان قد أخذ بزمام المسألة في رمضان الماضي وكون لجنة للنهوض بالتبعة كنت فيها. وتلاشى المشروع الذي كان أول بادرة لجعل التعافي شاغلاً أهلياً.وقد دعوت منذ أسابيع في مناسبة 22 يوليو ذكرى مذبحة بيت الضيافة (1971) أن نخضع الخلاف حول من قتل الضحايا لتحر تاريخي بواسطة علماء أدلة يميزون الخبيث من الطيب من الروايات لينتهوا إلى حكم تاريخي صارم نطوي به سجل المذبحة إلى الأبد ونقوم إلى شغل الوطن. وما ينطبق على مذبحة بيت الضيافة يسري على مذابح أخرى ومقاتل دامية بالطبع.
لم نعدم ابداً ما يسؤنا في الإنقاذ. وبدا لي أنه لننجز مشروع التعافي الوطني وجب ألا نرهنه بها حتى لا يكون مجرد نقيصة أخرى للإنقاذ. فالتعافي هو روحانية التحول الديمقراطي بفقه “لو تباينتم ما تدافنتم”.