الصادق وأنا !

0 57

كتب: زهير السراج

.

تعجز الكلمات عن رثاء الصادق المهدى، فمثله لا تحتويه عشرات المقالات، ولا عشرات الصحف، ولا عشرات الكتب، ولا ملايين الصفحات، فلقد كان أحد أطهر وأعف وأنقى وأنبل وأكرم وأعظم الرجال.
كان متسامحا مع نفسه ومع الآخرين، سمحا، حكيما، حليما، متعففا، مبتسما رغم حملات التجريح المستمرة التي ظل يتعرض لها من الكثيرين، بل من أحقرهم مكانةً وأحطهم قدرا وأوضعهم أصلا من الذين تسلقوا في غفلة من الزمن الى السياسة او الصحافة، أو ممن أتاح لهم التقدم العلمي وانتشار الوسائط الفرصة للنبيح والعواء، فلم يجدوا غير الرجل النبيل العفيف الطاهر عف اللسان المتسامح السمح، لينفثوا فيه سموم أصلهم الوضيع .. حتى وهو على فراش المرض يعانى سكرات الموت !
لا تطاوعني الكلمات في ذكر محاسنه التي لا تتسع لها كل مساحات الكلام والحديث عن مواقفه النبيلة، وتقبله لأقسى كلمات النقد .. وكنت كثيرا ما اختلف معه في الرأي، وكثيرا ما وجهتُ إليه سهام النقد سواء عبر هذا المكان أو عندما ألتقى به، فلم أجد منه إلا الاحترام والرد الجميل .. وكان هذا ديدنه مع الجميع !
فقدناه في وقت حرج نحن أحوج ما نكون فيه للحكمة والرشد والحصافة والشجاعة، ولكن عزاؤنا إنه وان كان قد رحل عن دنيانا، فمثله لا يموت .. وأتمثل هنا برثاء نزار قباني لأبيه ..” أنا لا يموت أبى، ففي البيت منه روائحُ ربٍ .. وذكرى نبي” !
ربطتني بالإمام الصادق علاقة روحية متينة، فلقد نهل كلانا، في زمنين مختلفين، من بحر العلامة جدى الشيخ المرحوم الطيب السراج.�* وربطتني به علاقة احترام وصداقة متبادلة منذ زمن طويل، ولقد كنتُ أحد اثنين أولهما الصحفي الكبير المرحوم محمد خليل ابراهيم (وليس محمد ابراهيم خليل السياسي وعضو حزب الأمة والخبير القانوني المعروف) وراء تأسيس (منتدى الصحافة والسياسة) الذى يقام في يوم الاربعاء من كل شهر بمنزل الصادق بحي الملازمين بأم درمان، وعملت في لجنته التنفيذية عدة أعوام قبل أن اتنازل عن مكاني لزملاء آخرين، وظللت عضوا نشطا فيه أشارك بالتنظيم والرأي واختيار الموضوعات حتى آخر منتدى، وأتمنى ألا يكون الأخير فلقد ترك الصادق من الذرية الصالحة والإرث الكبير ما يضمن إقامة المنتدى الى آخر الدهر ! �* كما ظللت أشارك بصفتي الشخصية والمهنية في الاحتفال السنوي بعيد ميلاده في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام، وهو بمثابة ندوة سياسية تتناول هموم البلد والشعب يحضرها الكثير من السودانيين والأجانب وليس احتفال ميلاد تقليديا، وكان لي شرف إلقاء كلمة الحفل بعيد ميلاده في عام 2011 ، تحدثت فيها عن الصادق المهدى كمفكر وسياسي وانسان، وسردت قصة تأسيس (منتدى الصحافة والسياسة) والعلاقة التي تتميز بالاحترام والندية بين الصادق والصحفيين، وهو ليس مؤتمرا صحفيا، وإنما منتدى للنقاش وتبادل الأفكار والآراء في جو مفتوح وحرية كاملة، كان الصادق يستمع فيها أكثر مما يتكلم، ويستمع للنقد بل والهجوم المباشر على سياساته .. بابتسامة صافية لا تفارق وجهه الجميل !
وتشرفت بعضوية اللجنة التحضيرية للاحتفال بسبعينية الصادق المهدى قبل خمسة عشر عاما والتي كانت برئاسة البروفيسور قاسم بدرى، وتم تكليفي والصديق العزيز الاستاذ (الحاج وراق) بتقديم الندوة التي اقيمت على شرف المناسبة بجامعة الاحفاد للبنات بأم درمان.�* وكنت ثاني اثنين من خارج حزب الأمة، أحدهما هو الزميل العزيز الصحفي الكبير (محمد عبد السيد) اشارك بدعوة كريمة من المرحومة السيدة (سارا الفاضل) زوجة الامام ورئيسة لجنة العلاقات الخارجية لحزب الأمة، خلال أسوأ أيام النظام البائد، في اجتماعات اللجنة التي كان يحضرها الصادق المهدى .. لإبداء الرأي وتقديم المشورة في بعض الموضوعات السياسية المهمة رغم اننا لا ننتمى للحزب، وهو ما يوضح الى أي مدى كان الصادق والسيدة سارا وحزب الأمة منفتحين على الآخرين، وتواقين للاستماع للرأي الآخر عكس ما يظنه الكثيرون، ولقد تسبب لي حضور تلك الاجتماعات في بعض المضايقات من جهاز الأمن، واتهامي من القيادي في النظام البائد (كمال عبد اللطيف) بالانتماء لحزب الأمة، وهى تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه! �* واستعان بي السيد الصادق مع آخرين للتحضير لزيارته الى الولايات المتحدة الأمريكية قبل بضعة أعوام، وكتابة ورقة تتضمن بعض المقترحات واسماء عدد من الشخصيات الامريكية التي يمكن أن يلتقى بها، وكان ذلك من واقع اهتمامي بالسياسة الامريكية تجاه السودان، ومحاضرة قدمتها (بمنتدى الصحافة والسياسة) عن العلاقات السودانية الأمريكية، ووجهتُ فيها انتقادات حادة للصادق المهدى بسبب سياسته السلبية وهجومه المستمر على الادارة الامريكية آنذاك، تقبلها بصدر رحب، بل كلفني بالتحضير لزيارته لأمريكا، وهو ما يدل على فهمه العميق للنقد واحترامه للرأي الآخر ، وتقبله والاستهداء به.
ولا بد أن أذكر هنا وقوفه المتكرر الى جانبي في المحن الكثيرة التي تعرضتُ لها خلال العهد البائد بسبب انتقادي المتواصل لفساده وسياساته التعسفية والقمعية، وكان لمواقفه تلك الدور الكبير في التخفيف عنى وشحذ همتي، وإعطائي الاحساس بالأمان وأنا أمارس حقي في التعبير ونقد سياسات النظام البائد !
هذا نذر يسير جدا مما تميز به الراحل العظيم، أسأل الله أن يتقبله قبولا حسنا، ويلهمنا وأسرته وأصدقاءه وتلاميذه وكل اهل السودان الصبر الجميل على الفقد الجلل والمصاب العظيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.