الإمام الصادق المهدي: قمراً مضوي وغاب فُرقك شوانا (٢)

0 55
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(صدرت ترجمة للإمام الصادق المهدي بقلم رباح الصادق بعنوان “السيد الصادق المهدي: سيرة في مسيرة” (٢٠١٥ و٢٠١٦). وتوافرت للمؤلفة مصادر أسرية مباشرة جعلت من الكتاب قراءة لا غنى عنها لمعرفة الإمام والتاريخ الذي كان بعضه ومن صناعه. وفصوله عن حياة الإمام الباكرة طفلاً وشاباً متعة خالصة)
تعاور الإمام، ابن أسرة الوجاهة بالإرث، صراع الحداثة والتقليد في مدرج تعليمه. فعهدنا من متعلمينا، الذين تفتحت لهم أبواب التعليم الحديث، أن يأمنوا لها حتى صارت هي يوم مولدهم حين يتحدثون عن أنفسهم لا يوم ميلادهم في بيوتهم . فأسقمته مدارس التعليم الحديث. فترك مدرسة كمبوني، التي دخل مدرستها الوسطى، ثم كلية فكتوريا الثانوية بالإسكندرية جملة واحدة ليجلس بين يدي الشيخ الطيب السراج. وقد وصفه، الإمام نفسه، بالاستثنائي في كراهة “الكفر والعجمة”. ولم تكن كراهة الاستعمار كبعثة تبشيرية رائجة بين متعلمينا مثل كراهته كنظام سياسي واقتصادي أجنبي. فالسراج لم يستخذ أمام الإنجليز مثل خريجي مدارس الإنجليز الذين كرهوها سياسة كاستعمار ولكنهم أعجبوا بهم حضارة وصُرِعوا بها. فكان السراج يستخف بالإنجليز ويقول إن لغتهم قاصرة لأنها مبنية كلها على السكون. وكان لا ير سبباً ليذهب إلى لندن، كما ورد، إلا غازياً.
وربما كانت استثنائية السراج في تعاطي الغرب مستعلياً هو ما احتاج له الإمام بعد أن أمضته عوائد الغرب في مدارسهم. بل كان تصعير السراج خده للغرب هو الجذوة التي بنى عليها صحوته الإسلامية. ومنع هذه الصحوة أن تكون محض أشواق أصولية أنه سرعان ما شاغبه السؤال “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”. واتفق له إن قوة الغرب في إمساكه بأسباب العلم. فاستدرجه أستاذ مصري يدرس البيولوجيا ليلتحق بجامعة الخرطوم لينتهي به المطاف إلى اكسفورد لدراسة الاقتصاد. وسيرى القارئ أن الإمام تَشَرب الليبرالية الإنجليزية حتى الثمالة. فأعجب حتى بطريقتهم في إخفاء مشاعرهم الحقيقة طلباً للعافية العامة. بل لاحظ حسهم بالفكاهة كوسيط لتلك الغاية أيضاً. ولما غابت عنا هذه الصفحة من الأمام جهلنا عادة الديمقراطية فيه ونسبناها إلى التردد أو التناقض أو “أبو كلام”. وقد سبق لي تنبه الغافلين إلى أن الديمقراطية كلام . . أي كلام.
ولم تكن ليبراليته تصديقاً بالخواجات وتسليما. فقد قعد الإمام لليبرالية الإنجليز في مقعد ضعفها الأعظم وهو قبولها للإمبريالية. أو صمتها عنها. فكان عضوا في جمعيات الجامعة المناهضة للاستعمار مثل الجمعية العربية والنادي الاشتراكي (وكان طلب من أخيه عصام وهو في السودان كتباً عن الشيوعية لمعتنقيها ونقدتهم)، وجمعية آسيا وأفريقيا وجزر الهند الغربية، والاتحاد الإسلامي. وعرض لنشاطه في النادي الاشتراكي، وثيق الصلة بحزب العمال، لتعبئة الإنجليز ضد العدوان الثلاثي في 1956، ولجدله الحامي مع أستاذه المحافظ. هذا من جهة الحركية. أما من جهة الموضوع فقد تيقظ ل”استشراق” الغرب حين وجد في بعض كتبهم إشارة للمهدي كتاجر رقيق كان موظفاً مع الأتراك ثم صار نخاساً. وكانت لحظة وعي بالنزاع الثقافي العالمي سامقة. فقال إن هذا التمثيل بالمهدي نزع عنه الاحترام الذي تعامل به مع الكتب من قبل. فالتاريخ بقلم الغربي يقف دون حياته وتاريخه. وكانت تلك لحظة انبعاثه في تاريخه ذاته. فهي لحظة قال عنها إنها “أيقظتني وبذرت في نفسي شكاً مفيداً (ولولاها) لطال انخداعي بحجاب الموضوعية”. وهي موضوعية تاريخ لحمته وسداه التهوين منا ل. ونختم في المرة القادمة إن شاء الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.