لمسلحون يواصلون الحرب فتخسر الثورة بانقلاب
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
قلت أمس إنه بين العسكرية السودانية المهنية والخلوية والمسلحة (وتدخل الأخيرة في باب الخلوية أيضاً) زمالة سلاح ضارة ولكن صورتُها بعد ثورة ديسمبر غير صورتها في ثورتي أكتوبر وإبريل. ففي هذه الثورة قبل المسلحون بالسلام بتواثق دقيق مع العسكريين ممن كانوا في حرب معهم خسروها في الغالب كما رأينا في حال حركتي العدل والمساواة وجيش تحرير السودان-مناوي والشعبية-عقار. ومنهم من ينتظر: الشعبية-الحلو وجيش تحرير السودان-عبد الواحد. وما قام به هؤلاء المسلحون في هذه الثورة طعن للثورة الشعبية المدنية من الأمام يفتح الباب واسعاً لانقلاب عسكري كامل الدسم. وهو ما أراده بالفعل البرهان ومجلسه العسكري داخل الثورة لولا أن أجهضته قواها العريضة بالاعتصام وحصار المنظمات العالمية والإقليمية له. وظل انقلابهم كامل الدسم هاجساً يبحث عن حاضنة اجتماعية سياسية بديلة لقحت. واتفاق جوبا هو جزرتة العسكريين للحركات على أنها في مثل عزلة الإدارة الأهلية التي طلبوها في أول انقلابهم وما أجدت.
طَعنُ المسلحون اليوم في الثورة المؤدي لانقلاب عسكري بخلاف ذلك الذي وقع في ١٩٦٤ و١٩٨٥. ففي الثورتين السابقتين استدعى المسلحون العسكرية السودانية للحكم بطريقين. فتجدهم نافرين عن عقد أي حلف واجب ووثيق مع الثورة المدنية من موقع الحليف لا الخصيم. ثم هم يواصلون الحرب ضد النظام الذي جاءت به الثورة مما يخلق وضعاً لا يحسن مثل الجيش التعاطي معه. ومتى بطلت السياسة ولعلعت البنادق صار احتلال الجيش دست الحكم قاب قوسين أو أدني. حدث ذلك في أعقاب ثورتي ١٩٦٤ ١٩٨٥.
ففي أعقاب كلا الثورتين تولى الجيش الحكم من باب احتجاجه على قصور الحكومة الديمقراطية الوليدة في إعداده للحرب التي دعته لخوضها. فرأينا في المقال الماضي كيف احتج صغار الضباط في جوبا في ١٩٦٥على عجز الحكومة عن إعدادهم للحرب ضد القوميين الجنوبيين المسلحين في منظمة الأنانيا. وهو الاحتجاج الذي ساقهم لاعتقال عبد الحميد صالح، وزير الدفاع، واللواء الخواض محمد أحمد، القائد العام، اللذين سارعا لاحتواء الموقف.
وخرج من هذا الاحتجاج بعض قادة انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩. فمنهم الصاغ فاروق حمد الله الذي أعفوه من الخدمة بعد واقعة جوبا وكان هو الدينمو من وراء الانقلاب من الاستيداع. وكان اليوزباشي أبو القاسم محمد إبراهيم حاضراً في جوبا خلال الواقعة. ونقلها لزميله وصديقه الرائد زين العابدين محد أحمد عبد القادر. وذهبا معاً لمحمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء، الذي أشرف على تربية أبي القاسم بعد وفاة والده، ليتدخل فيرفع العقوبة عن الضباط المعفيين. ونهض زملاء أولئك الضباط الموقوفين يدفعون عنهم ما سموه الظلم الذي حاق بهم في حين لم يطلبوا سوى أن يخدموا الوطن بجسارة وكفاءة. وكان بعض أولئك الضباط أعضاء في تنظيم الضباط الأحرار الذي ترأسه البكباشي محمود حسيب وقام بالانقلاب في خاتمة الأمر. فتداول أمر ذيول جوبا أبو القاسم وزين العابدين مع اليوزباشي خالد حسن عباس واليوزباشي مامون عوض أبو زيد وهم من أعضاء مجلس انقلاب 25 مايو لاحقاً. واتصل أبو القاسم وزين بالبكباشي جعفر نميري عضو التنظيم. وكان بتنظيم الضباط الأحرار حشد من الضباط من لمعوا لاحقاً في سماء مايو مثل اليوزباشي عبد المنعم محمد أحمد الهاموش، الذي استشهد في 22 يوليو بعد انقلاب 19 يوليو، واليوزباشي الرشيد أبو شامة، واليوزباشي الرشيد نور الدين، والصاغ بابكر النور، رئيس مجلس انقلاب 19 يوليو.
وسنرى كيف أفسد المسلحون الثورة المدنية في ١٩٨٥ لا بمجرد اعتزالهم في وقت صّرمتهم لها فحسب بل واصلت الحرب ضد الحكومة التي جاءت بها الثورة. ولم يكن سوى الجيش من يحسن مقارعتها الحرب. فرجّح المسلحون شاءوا أو لم يشاؤوا كفة المجلس العسكري (سوار الدهب) الذي جاء بانقلاب داخل الثورة لكي يلجمها. فهيأت له الحرب أن يصفى الثورة تصفية كاملة ومعجلة.