في بناء البشر.. المؤسسة العكسرية.. قيام .. راقداً
كتب: د. حيدر إبراهيم علي
.
عادت بي الذاكرة إلى عام 1960 حين تقرر أن نمضي شهر التدريب العسكري (الكديت) وكانت فترة عصيبة كنا نحاول أن نقلل من ضجرها وتعبها بالسخرية والتمرد. وكانت البداية مع الجاويش التلعمجي الذي كان عليه أن يعلمنا (حركات الجيش) واستهل تعليمي بوصف الحركات والأوضاع المختلفة للاستعداد والتأهب وجاء في مستهل قاموسه حركة سماها (قيام.. راقداً)، وكنت مشاغباً عصياً تصديت له:
– يا جنابو مافي حاجة اسمها قيام وراقد يا تكون قايم أو راقد..
وكان عليّ أن أتحمل (طابور زيادة) تحت شمس حارقة. ولكن لم أقتنع. وبعد سنوات طويلة حاول أحد الأصدقاء وهو ضابط عظيم أن يوضح لي المقصود ولكن عقلي لم يقتنع بشرحه، وفتح الله عليّ وكان البيان بالعمل – كما يقول العسكريون- ورأيت عملياً وضعية قيام… راقداً يمارسه بعض العسكريين في السلطة الانتقالية. فهم ليسوا في وضع قيام واستعداد لحماية الثورة والانحياز إلى الشعب وحكومته الانتقالية. ولكنهم راقدون لتعطيل الثورة ووضع المعوقات في طريق مسيرتها وخلق المعوقات والأزمات. راقدون في وضع تأبط شراً ويطلون كل لحظة وأخرى من أجهزة الإعلام يهددون ويتوعدون الشعب والحكومة الانتقالية وبالأمس القريب في برنامج في الـ BBC مع رشا قنديل قام راقداً اللواء الخبير العسكري الطيب لينشر على الملأ عضلات المؤسسة العسكرية وأنها لن تترك الأمور تمضي بهذه الطريقة. يتحدث العسكريون كثيراً عن الضبط والربط أو الانضباط ولكن مع نشوة السلطة حدث انفلات وظهرت عنجهية القوة عند طابور خامس يتنامى داخل المؤسسة أمثال هذا الخبير الذي عمل على استعراض العضلات عوضاً عن إعمال العقل والتأمل وهو يقدم تحليلاً على الهواء يسمعه الملايين.
يشبه الطابور الخامس الذي يتشكل هذه الأيام ما يسمى في السياسة اللبنانية (الثلث المعطل في البرلمان) فهم يلعبون هذا الدور في السياسة السودانية الانتقالية بغض النظر عن التسمية أو المصطلح، فالراقدون يتعمدون خلق التوتر بين المدنيين والعسكريين كلما صفا الجو بينهما. وحاولوا هذه الأيام استغلال تصريحات د. حمدوك عن الاستثمارات العسكرية. وأنا لدي سؤال ساذج جداً هل هذه الاستثمارات سودانية أم أجنبية؟ فإذا كانت سودانية فما المانع القانوني الذي يمنع أن تكون تحت ولاية وزارة المالية والاقتصاد الوطني. وكذلك من المعروف في كل العالم أن الجيوش تنشط في تقديم مساعدات وتسهيلات اقتصادية في القطاعات التي تصعب على بقية العاملين في الاستثمار لذلك تعمل الجيوش في بناء الطرق والكباري واستصلاح الأراضي والري. تحويل هذه الشركات إلى شركات مساهمة مطلب شعبي وديمقراطي ويحفظ الدور القومي للجيش السوداني ويبعده عن تنافس السوق وجني الأرباح والسعي وراءها بكل الأساليب.
أخيراً أتمنى أن يكون الجيش واقفاً ومنحازاً إلى جانب الشعب حتى لو رجع إلى تنظيم الضباط الأحرار المسيس ولكن على أسس قومية لا حزبية وأن يقوم بعزل الراقدين وإبعادهم عن صفوفه لأنهم راقدون فوق رأي. وليعود الجيش حسب التسمية قوات الشعب المسلحة وليس طابور الإخوان المتربص بالثورة. هذا هو الخيار الذي نرجوه لأبنائنا خاصة في الظروف الحرجة الحالية من تهديدات خارجية وأن يدركوا رسالتهم ودورهم جيداً بعيداً عن التحزب والاستثمار.