اتركوا الموازنة للحكومة القادمة

0 78

كتب: خالد التيجاني النور 

(1)
أخشى حقاً، راجياً بكل صدق أن أكون مخطئاً، أن تُفجع البلاد مرة أخرى في اقتصادها على نحو أنكى، والحكمة أن العاقل لا يُلدغ من جحر مرتين، فقد تبقت ثلاثة أيام فقط على بداية العام الجديد، والتي هي أيضاً بداية السنة المالية للحكومة المفُترض أن ترافق بصدور قانون المالية العامة المعروفة بموازنة الدولة الذي يخوًل التفويض القانوني للشروع في الإنفاق العام، ومصدر الخشية أنه في غياب أي نقاش جدي موسع في الفضاء العام، رسمياً ومجتمعياً، حول الرؤى السياسية والاقتصادية الكلية حول الاستراتيجية التنموية للدولة، والسياسات المالية والنقدية والتجارية، سيتكرر السيناريو الفاشل نفسه بامتياز الذي أدارت به الحكومة الانتقالية الاقتصاد في عامها الأول، وانتهى إلى ما لا يحتاج إقامة دليل عليه، المؤسف أن الحكومة تسير على الدرب نفسه الذي قاد إلى هذا الخراب دون أية عظة أو عبرة، ولا أدرى كيف لها أن تتوقع نتيجة مختلفة.
(2)
أصدرت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي ثلاثة بيانات صحافية في ديسمبر الجاري بشأن موازنة 2021، في البيان الأول بتاريخ الثاني من ديسمبر حثت الوزارة الهيئات والوحدات الحكومية على “الإسراع بتسليم مقترحاتها حتى يتسنى للمالية الإلتزام بالجدول الزمني والمقرر أن تقدم فيه المسودة الأولى من الموزانة على طاولة مجلس الوزراء في الخامس من الشهر الجاري”، لم أقع على أي بيان رسمي يشير إلى أن المجلس ناقش هذه المسودة المشار إليها.
وفي اليوم نفسه صدر بيان آخر من الوزارة بعنوان “المالية توسع دائرة الشورى لاعداد موازنة العام 2021” ويقول متنه إن الوزيرة المكلفة “ترأست الاجتماع الاول للجنة العليا لاعداد موازنة العام المالى 2021م وأكدت على توسيع دائرة الشورى من الجهات المعنية لتبادل الافكار والآراء لمخرجات موازنة الحكومة القومية”، وفي 23 ديسمبر صدر البيان الأخير يتضمن نفياً لما راج عن زيادة الدولار الجمركي في موازنة السنة الجديدة.
(3)
تشير البيانات أعلاه إلى استمرار الخلل المنهجي في التعاطي الحكومي مع القضية الاقتصادية بالذهنية ذاتها التي قادت إلى تراكم الأخطاء، فالموازنة ليست مجرد مسألة فنية، صحيح أنها في الجانب التقني هي مهمة وزارة المالية، ولكنها تبقى قضية سياسية بامتياز، ذلك أن الإطار السياسي السليم الذي يحدد الرؤية الكلية والاستراتيجية والأولويات وجهة السياسات هي التي تضمن سلامة الأداء الاقتصادي، وتأتي الموازنة لتخدم هذه الأهداف وفق برامج محقّقة لمقتضاها، فهي ليست مجرد أرقام منتزعة السياق يتم التلاعب بها وطبخها فقط لإعطاء صورة زاهية مزيفة كما ظل يجري الحال في ظل النظام السابق وفي العهد الحالي، ولئن إدعى أحد أن المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد في سبتمبر الماضي حسم هذه المسائل فلا بد أنه يلقى مزحة ثقيلة، فقد كان مسرحية هزلية مشهودة.
(4)
ما يثير الاستغراب أن هذه المسألة تجري الآن على نحو روتيني، فلن يلبث حتى يتم عرض أرقام بلا معنى على جلستين تجريان على عجل لمجلس الوزراء، ثم أخرى مشتركة مع السيادي، في سباق مع الزمن قبل نهاية العام في اليومين المتبقيين لموافاة الشكل القانوني المظهري، وريثما يحتسي أعضاء المجلسين بعض المرطبات تكون موازنة 2021 أجيزت اعتباطاً في وقت وجيز لا يسمح حتى بقراءة عناوينها، دعك من أي درجة نقاش يتوفر له الحد الأدنى من الجدية والإحساس بعظم المسؤولية عن عواقب هذا الاستخفاف بإدارة الشأن العام الذي يدفع المواطن ثمنه الباهظ.
(5 )
وحتى لا تقع هذه الكارثة مجدداً، نقترح أن يكتفي المجلسان بإصدار تفويض مؤقت للصرف المالي لفترة وجيزة، ذلك أن الحكومة الحالية التي تريد إجازة هذه الموازنة ليست مخولة، ذلك أن مهمتها تقتصر على تصريف أعمال بين يدي حكومة جديدة يجري التشاور حولها بموجب اتفاق جوبا واستحقاقاته الدستورية بكل تبعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك يجب أن تترك مسؤولية موازنة 2021 لها وأن تحاسب عليها، وعليها أولاً أن تنجز اتفاقاً على الرؤية والأولويات والسياسات الكلية قبل أن يُعهد إلى وزارة المالية إعداد موازنة حقيقية وفقاً لذلك، حتى لا تتذرع الحكومة الجديدة وتتنصل عن مسؤولية أي إخفاق في إدارتها للاقتصاد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.