كلمة التحرير في “السوداني”: من ديك الغِميلة
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
سبقني محمد عثمان إبراهيم للتنويه بعودة كلمة التحرير في جريدة السوداني بقيادة عطاف عبد الوهاب. وأعادتني الحكاية لكلمة قديمة أخذت على صحافتنا فيها تلاشي كلمة التحرير من صفحاتها بالكلية إلا لماماً كما سيأتي. وبدأت كلمتي بعبارة عن من افتقد هذه الكلمة قبلي وهو قريبي وأستاذي الدكتور محجوب عبد المالك ود عمتي ست الجيل رحمهما الله. وأحسن الرجل الى قلمي اليافع في الستينات وفتح لي صفحات الصراحة الجديدة أرتع فيها. وكتبت كلمتي أيضاً ناظراً إلى مطالعتي كلمات التحرير في النيويورك تايمز التي وصفتها ب”عدل الرأس” للخدمة الصحفية الاستثنائية التي تتجمر في مصهرها: طلب للرأي الرجيح بالبحث والتحقق والبلاغة في الإيجاز. ومطلوبات كلمة التحرير مما لا تمتع به صحافتنا ولكن لنتفاءل بمبادرة السوداني فالسايقة واصلة. فإلى كلمتي القديمة:
لا أعرف إقتراحاً وَعَي محنة الصحافة السودانية المهنية مثل ذلك الذي تقدم به الدكتور محجوب عبدالمالك. فقد قال محجوب إن خلو الصحيفة من كلمة المحرر خلل مهني كبير. وهي كلمة كاتبها مبني للمجهول تحمل رأي الصحيفة في مجريات الأمور. وهذا مربط الفرس في قولنا إن الصحافة هي سلطة رابعة. وقد يبلغ رأي الجريدة حد تبني مرشح معين في المدينة أو الولاية او القطر. فمثلاً تبنت النيويورك تايمز السانتور كري علي منافسه السناتور إدورد كمرشح للديمقراطيين في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2004. ولعظم تبعة الكلمة فالجريدة تنتخب لها من محرريها أولي الفطانة وحسن التبليغ تعينهم جماعة ساهرة من الباحثين الذين يوفرون لهم المعلومة حتي يتمكنوا من رؤية الصورة من كل جوانبها.
وقد ضمرت كلمة التحرير عندنا حتي أصبحت بمثابة التهنئة في الأعياد او العزاء في كوراث الأمة الفاجعة. وليس هذا بمستغرب في صحافة مضربة عن بناء مراكز المعلومات ولا إعتقاد لها في جدوي البحث. ولهذا غالباً ما صدرت الكتابة فيها عفو الخاطر. وكنت التمست من الحكومة أن تكف عن إشتراط عدد صفحات معينة للجريدة لكي تصدر و تظل من جهة أخرى تنظر شذراً للصحف تعتدي عليها أثناء أداءها لواجبها من فرط الوسوسة. واقترحت عليها بدلاً عن ذلك ألا تصدق لصحيفة ليس لها برنامج قصير وطويل المدي لبناء مركز للمعلومات وتدريب المحررين. واضفت أنه لو تعذر ذلك علي الصحف فالبديل أن تؤسس الحكومة مركزاً للمعلومات تموله بإشتراكات متراوحة من الصحف . وليس بناء هذا المركز معجزة. فنواته قائمة بالفعل في وكالة سونا لللأنباء. فقد اشتكت الحكومة، لو احسنا الظن بها، من الكتابة “العشوائية” عنها ولا منجاة لها من ذلك بالرقابة المسستترة أو المعلنة. إن شفاء الصحف والحكومة معاً في قيام الصحف علي مهنية مستنيرة ويكون الخلاف الذي لا مهرب منه بينهما علي بينة. ولا أريد الإيحاء هنا أن المهنية ستنصف الحكومة. لا. بل ربما ضربت المهنية وأوجعت. ولكننا هنا حريصين علي القارئ الذي نريد لها أن يقرا كتابات تحترم ذهنه. وهو الفيصل في الأمر طال الزمن أو قصر.
لقد عاودتني هذه الفكرة وأنا أقرا قبل أيام إفتتاحية للنيويورك تايمز تطلب من مولانا إسكاليا رئيس المحكمة العليا الأمريكية ان ينسحب من النظر في قضية معروضة علي المحكمة أحد اطرافها السيد ديك شيني نائب الرئيس الأمريكي. فقد استأنف نائب الرئيس إلى المحكمة العليا حكماً صادراً من محكمة الموضوع تطلب منه كشف اسماء من أدلوا بشهادات أمام اللجنة السرية التي كونها في 2001 لمناقشة مستقبل وخيارات الطاقة في أمريكا. ودعوة الصحيفة لإسكاليا بان يعفي نفسه من نظر القضية سببها مظنة الغرض. وقد أسست الصحيفة ذلك علي بينات جمعتها الصحيفة كدم الحجامة.
فقد كانت الجريدة كتبت من قبل تكشف عن رحلة صيد للبط جمعت شيني وإسكاليا بعد أيام من قبول المحكمة العليا النظر في قضيته. ولم يحرك إسكاليا ساكناً. ثم اتضح أن إسكاليا قد سافر في الرحلة علي طائرة سلاح الجو رقم 2 وهي طائرة نائب الرئيس. وقالت الجريدة إن هذا المعروف من نائب الرئيس عمق الشك في حيادية إسكاليا تجاه القضية. وكشفت أيضاً عن رحلة صيد للطواويس صحبه فيها محام له قضية أمام المحكمة العليا. واختتمت الجريدة مناشدتها للقاضي بالانسحاب بقولها:
(إن أحكام إعفاء القاضي عن النظر في قضية فيها مظنة حياده (وهي أحكام فدرالية) لاتحمي الخصمين فحسب بل المحكمة ذاتها. لقد عادت تصرفات إسكاليا تغذي سخريات كوميديّ برامج منتصف الليل التلفزيونية كما حدث بعد إنتخابات 2000 (التي حكمت فيها المحكمة برئاسة بوش). وإذا بقي إسكاليا بالمحكمة وصوت لصالح شيني ستواجه المحكمة المزيد من النقد. وإننا لنعتقد أن إسكاليا لا بد أن يعفي نفسه من القضية إما طوعاً أو بتشجيع حثيث من زملائه).
سيقول القائل نحن وين وديلا وين. وهذه مماحكة معروفة عند أهل الهزء. لكل شيء بداية. ولقد تاخرنا كثيراً حتي في أن نبدأ إنتظاراً . . . لماذا لا أعرف.