نادي البجا شرق السودان

0 77

كتب: د. الشفيع خضر سعيد

.

نواصل ما انقطع من حديث حول تداعيات زيارتنا لولاية البحر الأحمر، وما طرحه أهلها في لقاءاتنا بهم، حول قضايا الولاية، والتي تُعتبر من المناطق الأقل نموا في السودان، حيث البنية التحتية والمشاريع التنموية شبه منعدمة، وتتفشى فيها المجاعات والأمراض والأمية، رغم توفر الموارد والثروات، في مفارقة أشرنا إليها بكرم الطبيعة وبُخل السياسة في شرق السودان. وكنا قد ابتدرنا هذه السلسة بتسطير ما شاهدناه في إدارية أوسيف وما سمعناه من أهلها الطيبين.
شهدت خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تأسيس أندية وجمعيات وروابط جهوية وقبلية في الخرطوم، عاصمة البلاد، أسسها المتعلمون والمستنيرون من أبناء تلك الجهات والقبائل، الذين يعملون في العاصمة أو يدرسون في الجامعات والمعاهد العليا المتمركزة فيها، بهدف إسماع صوت تلك المناطق للمسؤولين في الحكومة المركزية، ودفعهم لتوفير الخدمات من صحة وتعليم ومياه شرب نظيفة…الخ، لمناطقهم الطرفية والبعيدة عن المركز. وفي حالات كثيرة، كان أبناء هذه المناطق، العاملون في العاصمة والمغتربون في بلاد المهجر، يستنفرون بعضهم البعض للتبرع لتنفيذ العديد من المشاريع الخدمية في مناطقهم. وفي محاولة لمزج ثقافاتها بالثقافة السائدة في المركز، أو لتأكيد أنها مكون أساسي من مكونات الثقافة والهوية السودانية، كونت تلك الأندية والروابط فرقاً ثقافية وفنية تعبر عن ثقافات مناطقها وقومياتها، وتتغنى بها في كل مناسبات المركز، خاصة في أعياد ذكرى الإستقلال والمناسبات القومية الأخرى، في دلالة واضحة وذات مغزى. كما كونت هذه الأندية والروابط فرقاً رياضية فرضت نفسها على هيكل التنظيم الرياضي في العاصمة. وفي بدايات نشاط هذه الأندية والروابط والجمعيات، لم تكن السياسة حاضرة، أو كانت حاضرة ولكن بشكل خافت ومستتر وغير مباشر. لكن، العين الواعية سياسياً كان بمقدورها إبصار نطف الاحتجاج والتمرد في هذا النشاط، بسبب التجاهل وإهمال التنمية في تلك المناطق الطرفية. وفي هذا السياق، يؤكد البعض، أن الوعي بمشكلة الحرمان التنموي لشرق السودان كان سابقاً لغيره في غالبية مناطق السودان الأُخرى، ويدللون على ذلك بنشأة لجنة البجا للعون الذاتي 1946، وهيئة تنمية البجا 1949. وتدريجيا، بدأت السياسة تتقدم لتفرض نفسها وسط هذه الأندية والروابط، من داخل الأحزاب التقليدية في البداية، أو في تحالف معها، بحكم النفوذ السياسي لهذه الأحزاب في المناطق التي تنتمي إليها الأندية والروابط، ثم لاحقاً في شكل تنظيمات مستقلة عن الأحزاب، مثل اتحاد عام جبال النوبة، اتحاد عام جنوب وشمال الفونج، تحالف قوى الريف، جبهة نهضة دارفور، ومؤتمر البجا…الخ.

يقول علماء الأنثربولوجي والمؤرخون وأهل البجا نفسهم، أن البجا ثقافة ومنطقة، وليس إثنية، وأي شخص سكن المنطقة لفترة طويله يسمى بجاوي، أو أدروب. ويضيفون أن البجا عُرفوا قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، وهم عصارة مجموعات متنوعة الجذور، جمعت بينهم الأرض واللغة والثقافة والإرث الحضاري المتنوع، ويتكون من عدة قبائل، منها الهدندوة، والأمرأر، والبني عامر، والحلنقة، والبشاريين، والحباب والحدارب والملو والأرتيقة والأشراف والكميلاب والملهيتكناب والسيقولاب والشياياب، والعبابدة، والأتمن، وغيرها. واللغة السائدة عند البجا هي البداويت والتقرايت.
وفي مقر نادي البجا في بورتسودان، تعلمنا الكثير من لقائنا بلجنته التنفيذية، وبحضور رئيسه الدكتور حامد أبوفاطمة. وكان من بين الحضور الأستاذة آمنة أوره، عضو اللجنة، والتي حسب سيرة نشاطها الثرة تعتبر بحق مثقفا عضويا، وفق تعريف غرامشي. فهي، ومنذ بواكير شبابها، إهتمت برفع قدرات المرأة البجاوية، في مجتمع تقليدي محافظ، مركزة على تعليم المرأة البجاوية عبر فصول محو الأمية ومدرسة اليافعات، إضافة إلى العديد من المناشط الأخرى التي تساهم في بث الوعي ورفع قدرات الشباب والمرأة في المنطقة.
وبالمناسبة، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، للمرأة البجاوية دور هام في المجتمع، حيث كانت تعمل في إدارة خلاوي القرآن للبنات، ثم لاحقا في المجتمع المدني والنشاط السياسي، ويحدثنا التاريخ أن إحدى نساء الهدندوة عملت قاضية، تفتي وتفصل في المنازعات. ونادي البجا هو امتداد وتطوير لجلسة البُرْش، أو بساط الحَصير، والذي كان يجلس عليه ويجتمع الشباب والمثقفون من أبناء حي ديم عرب ببورتسودان، حيث ولدت هناك فكرة النادي، والذي تأسس عام 1950 بمبادرة من شباب وأعيان المجتمع، كنادي ثقافي إجتماعي مهتم بتطوير المنطقة. ولاحقا، في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1958، احتضن النادي ميلاد تنظيم مؤتمر البجا، والذي تأسس بمبادرة من الدكتور طه عثمان بلية وآخرون من مثقفي قبائل البجا، كأول تنظيم سياسي إقليمي في السودان، يضم في أغلبيته أفرادا من قبائل البجا، إضافة إلى إثنيات أخرى تقطن في شرق السودان. وتوافق المؤسسون على أن يكون في مقدمة أولوياتهم محاربة الفقر والمرض والأمية في المنطقة، والعمل على تنميتها، كما دعوا إلى إعتماد النظام اللامركزي لحكم السودان. وشارك مؤتمر البجا في الانتخابات البرلمانية، 1965، وفاز بأحد عشر مقعداً.
يقول أعضاء اللجنة التنفيذية لنادي البجا، إن تاريخ نضال أبناء وبنات شرق السودان ضد المركزية السياسية والاقتصادية القابضة، هو جزء من تاريخ نضال المجموعات الإقليمية المهمشة في أطراف البلاد الأُخرى، المناهضة لهذه المركزية، والمطالبة بحقوقها في السلطة والثروة، وفي حماية وتطوير إرثها الثقافي واللغوي. ويخشون من أن الظلم الذي عانوه إبان الإنقاذ، قد يتكرر الآن من الحكومة والحرية والتغيير، وأن نخب المركز تسعى لإحتكار ثورة ديسمبر/كانون الأول. ويشددون على أهمية الإعتراف بكل إتفاقات السلام السابقة حول شرق السودان، منبهين إلى أن إتفاقية الشرق، 2006، أتت بسلام، بينما إتفاقية سلام جوبا، 2019، جلبت الحرب. واشتكى المتحدثون من غياب توظيف العمال في شركات التعدين العاملة بالمنطقة، ومن فصل أبناء البجا في وزارة العدل لأخطاء في عمل لجنة إزالة التمكين، كما نبهوا إلى خطورة تباطؤ الأجهزة العدلية في التعامل مع قضية شهداء 29 يناير/كانون الثاني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.