تغييب دولة القانون: بين المأزق الأخلاقي والانتهازية السياسية
كتب: د. خالد التيجاني النور
.
(1)
انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي بالأمس صور ضاجة بالابتسامات وتبدو “حميمة” بين رئيس المجلس السيادي ومجموعة من أعضاء المكوّن المسيّس لـ “لجنة التفكيك”، ولعل ما لفت الانتباه لهذا المشهد، الذي يشبه فصلا في مسرحية من أعمال الكوميديا السوداء، أنه يأتي بعد أيام قليلة من تصعيد بدأ وكأنه أمر خطير حقاً، إثر ملاسنات علنية حادة سارت بها الركبان وإجراءات درامية، كاستقالة الرئيس العسكري للجنة وجرجرة العضو المثير للجدل في بلاغ رئاسي، ومنع عضوين من دخول القصر الجمهوري أو بالأحرى منع عضو المجلس السيادي ورئيس اللجنة المناوب من استقبالهما في مكتبه.
ربما لم يكن الأمر ليحتاج الوقوف عنده لولا دلالاته الصادمة في شأن السلوك الذي تُدار به الدولة في وقت عصيب لعله الأكثر خطراً على مصيرها، فلو كانت مجرد مصالحة بين أشخاص عاديين بصفتهم الفردية لجازت تهنئتهم بتجاوز خلافاتاتهم الشخصية ولململتها بإرث الجودية السودانية، ولقيل لهم “الصلح خير”.
(2)
ولئن جاز التعامل بطيبة “خلاص باركوها يا جماعة” في الفضاء المجتمعي كما يحدث في مشاجرات الأهالي العابرة في الحواري والأرياف، فإن ذلك آخر ما يصلح عندما يتعلق الأمر بقضية في أهمية إدارة دولة تواجه استحقاقات مصيرية، وهو بطبيعة الحال ما لا يمكن التسامح معه فهذه ليست مسألة شخصية تقتصر أضرارها على أطرافها، بل متعدية على الشأن العام وعاقبتها خسران مبين على البلاد والعباد، ولعل مما ما يدعو للتساؤل في هذا المقام كيف امتلك هؤلاء المسؤولون في الطرفين الجراءة على إهدار وقت ثمين وتبديد الطاقات في مشاكسات انصرافية وعبثية بامتياز، مما أثبته إمكانية تجاوزها مما صورته المشاهد الكوميدية، ولم تفلح سوى في صب المزيد من الزيت على نار الفوضى السياسية الضاربة بأطنابها في البلاد وزادت بدون مبررات موضوعية من توتير الفضاء العام المضطرب أصلاً في بلد يحتاج لكل دقيقة من ولاة أمره لانقاذه من انهيار وشيك حذّر رئيس الوزراء نفسه من إمكانية حدوثه إن لم يتم تداركه بتعامل مسؤول مع المخاطر التي تتهّدد تماسك البلاد.
(3)
بيد أن الدلالة الأكثر خطورة لهذه الممارسات المؤسفة تأتي في سياق ما حذّرنا منه في سلسلة كتابات في هذه الزاوية من أن أكبر مهدّد وجودي على الدولة السودانية هي غياب دولة وحكم القانون في ظل الوضع الانتقالي الهش الذي تكابد البلاد من ويلات تبعاته، فالعدل أساس الملك، مما اعتبرناها الفريضة الغائبة من فرط الاستهانة على أعلى مستويات الحكم جراء الانتهاكات المتكررة للوثيقة الدستورية ولحكم القانون التي أضحت ديدناً لتحالف الطبقة الحاكمة الجديدة، بمكونيها العسكري والمدني.
فلقد زعم الطرفان المتشاكسان في حمأة صراعهما العبثي الطارئ أن السبب في حدة الخلاف بينهما تعود إلى ممارسة انتهاك صارخ لمسار العدالة في أعمال “لجنة التفكيك”، حيث اتهم العضو المثير للجدل صراحة رئيس المجلس السيادي ونائبه بالتدخل لإجهاض جهود اللجنة في تقديم شخص متهم بالفساد للمحاكمة، وذلك بإسباغ حصانة غير مستحقة عليه عليه، وبالضغط على النائب العام لإطلاق سراحه، وهو بلا شك اتهام يقدح في أهلية الرمز السيادي الأول حيث يطعن في مشروعية وفائه باليمين الدستورية التي يحتل بها المنصب، وتسلب تأهيله للبقاء فيه، وجاء الرد من قبله بتدوين بلاغ جنائي في مواجهة هذه الاتهام الخطير بالتدخل لعرقلة سير العدالة، تلتها خطوة زميله في المكون العسكري بالاستقالة من رئاسة اللجنة حملت هي الأخرى أيضاً اتهامات لا تقل خطورة تطعن في قانونية ونهج عمل اللجنة وانتهاكها لقانونها بتعطيل لجنة الاسئتناف، ووصل إلى حد اتهام اللجنة بـ”إعاقة دورة العدالة”، وللمفارقة أنه لم يكتشف هذه التجاوزات الخطيرة وقد ظل رئيسا لها منذ تشكيلها أواخر العام 2019م.
(4)
وبهذه الخلفية التي تتكئ على إدعاءات عريضة من الطرفين بالحرص على “حكم القانون وسير العدالة”، وتبرير مواقفهما المعلنة في هذه الصراع المحتدم على أساس التزامها كل منهما الصارم بروح الثورة وتطبيق شعارها الداعي للعدالة باعتباره الداعي الوحيد لهذا الموقف المتشدد من كل طرف في مواجهة الآخر، يأتي السؤال الكبير كيف أمكن لما يبدو وكأنه خلاف مبادئ على تحقيق العدالة وتطبيق القانون بحرص انتدب كلا الطرفين نفسه مدافعاً عنها بلا هوادة، أن ينتهي هكذا في جلسة مجاملات عابرة قيل أن عدة جهات نهضت للتوسط فيها، وطويت صفحتها “بالوصول إلى نقاط تفاهم وتجاوز لما حدث لم تستغرق وقتاً طويلاً”، وأنهم “تبينوا أن إطلاق سراح رجل الأعمال التركي / السوداني كان استناداً على قرار لمجلس السيادة، ولم يكن قراراً فردياً” حسب تصريحات نقلت عن عضو اللجنة، وامتد الأمر “إلى دعوة رئيس اللجنة المستقيل لاسئتناف عمله”.
وهكذا تبخرت فجأة كل المزاعم والاتهامات المتبادلة بانتهاك حكم القانون وإعاقة سير العدالة التي تبارى الطرفان في ترويجها للرأي العام، وبدلاً من أن تكون هذه مناسبة لمعالجة جذور الممارسة السائدة لانتهاك القانون من الطرفين، والعمل الجاد بصورة مؤسسية على إرساء قواعد متينة وترسيخ حقيقي لدولة القانون، انتهى الأمر بمواصلة السير في الطريق نفسه باتخاذ دعاوى التمسك العدالة مطية لتحقيق أجندة ذاتية، على حساب المصالحة العامة، وليصبح التلاعب بالقانون هدفاً في حد ذاته يستخدم لأغراض تسجيل نقاط لتحقيق مكاسب في صراع عبثي على السلطة والثروة، ولا علاقة له لا بروح الثورة ولا بحكم القانون، أليس مثيراً للسخرية القول بأن إطلاق سراح أوكتاي كان قراراً من مجلس السيادة وليس قراراً فردياً لرئيسه وكأن ذلك سيغير من حقيقة أنه في الحالتين يشكل انتهاكاً صريحا للقانون وتدخل في مهام النائب العام المفترض تمتعه بالاستقلالية؟!
(5)
لا يحتاج الأمر إلى كثير جدال لإثبات محنة غياب حكم القانون، وانتهاك استحقاقات الوثيقة الدستورية، في ظل وضع انتقالي مهمته تحقيق مطالب ثورة ديسمبر المجيدة وفي مقدمتها إرساء دعائم أهم أركانها الداعية للعدالة، وكما أشرنا في مقالات سابقة لدلائل الممارسة التي باتت متواترة من هرم السلطة السيادية والتنفيذية والسياسية في ارتكاب هذه التجاوزات، فإن تجربة “لجنة التمكين” وليس فيما أوردنا آنفاً سوى طرف من نصيبها في هذه الشراكة المنتهكة لحكم القانون والمعيقة للعدالة، وهي ليست اتهامات مرسلة ولا من بنات أفكار تحليل سياسي بل ما أقر به قادة الطرفين بألسنتهم، غير أنه يضيف بعداً آخر يشكّل مأزقاً أخلاقياً ليس للجنة وحدها بل لمجمل التركيبة الحاكمة التي تم التواضع على أساسها في الاتفاق السياسي، والتي تكشف عن نوع من الانتهازية السياسية التي تتلبس ادعاء التعبير عن روح الثورة زوراً وبهتاناً.
كيف ذلك؟ ذلك ما نرجو أن نفصّل فيه في مقال قادم بإذن الله.