مجلس الأمن وحركات سلام جوبا: سنلقي عليك قولاً ثقيلا

0 52
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
صدر في يوم ٢٥ فبراير تحذير شديد اللهجة من مجلس الأمن للحركات المسلحة في دارفور على ضوء تقرير لجنة الخبراء كان كلفها ببحث أوضاع ليبيا والإقليم من حولها. فانتقد المجلس الحركات الموقعة على سلام جوبا بأنها تعوق هذا السلام وتهدد أمن الإقليم. فهي ما تزال تجند لقواتها بما فيهم الأطفال لتغزر صفها ليوم دمجها في القوات المسلحة. وطلب المجلس منها سحب قواتها من ليبيا التي تبقت بطلب من الأمارات العربية لدعم حفتر. وهدد المجلس بأنه قد يضطر لوضع قادة الحركات في قائمة للعقوبات أن لم يرعووا. وحَمل المجلس على جماعة عبد الواحد لأنها تواصل التجنيد وشراء السلاح من موارد الذهب الذي تعدنه في دارفور. وقال مجلس الأمن أن صراع أطراف المسلحين تسببت في نزوح ٢٠ ألف مواطن مع بشائر السلام.
لم أقع على تعليق، ناهيك عن احتجاج، في دوائرنا السياسية على خروق الحركات التي انزعج لها مجلس الأمن. وكأن التدابير التي أدانها مجلس الأمن تجرى في فاس الما وراها ناس لا وسطنا ومن أفراد يتهيأون لاحتلال مراكز حساسة ومفصلية في الدولة. ولخص قارئ نضيج هذا العزوف عن مساءلة جماعات منا سخط عليها مجلس الأمن متعاقدة معنا على السلام بقوله: “التجي من غيرنا طالما كنا لا نقوى عليها”.
نحن ثقافة مفرغة من المساءلة والشجاعة بالصدع بها على ظننا غير ذلك. فلو قلت لأحدنا إن لمساءلة هي زبدة الديمقراطية جاءك بالبينات من القرآن ليحتج أننا قد سبقنا العالمين إليها. ويبين الكوك في المخاضة. ففي خلال أسبوع واحد صدرت إدانات، أو شبه إدانات، مثل التي صوبها مجلس الأمن لحركات دارفور، لمسلمين بغاة، أو شذاذ، من منصات غربية على عوسهم الكأب (الكعب) في بلدهم. فقضت محكمة بألمانيا على سجن أياد غريب عنصر الأمن السوري اللاجئ بها لانتهاكه معتقلين تحت إدارته في ٢٠١١. ومعلوم صدور التقرير الأمني الأمريكي الذي قال إن ولي العهد السعودي مطلع، لا كما أنكر، على كل الإجراءات التي أدت إلى النهاية البشعة لخاشقجي. وفي دلالة قريبة تعلق مسيحيو العراق (من الأقلية التي فضلت) بزيارة البابا الأخيرة للعراق بعبارة منه للأمل: لستم وحدكم. وقد ذاقوا الأمرين من مثل تنظيم الدولة. وعادت بي هذه الزيارة لواحدة كانت للبابا جون للسودان في فبراير ١٩٩٣ أيام اشتداد الحرب في الجنوب قال فيها للمسيحين إن دمكم على يد المسيح.
بدت لي حركات دارفور جسداً غير جيد في توصيل النقد. فهذا هو لفت النظر الثاني من مجلس الأمن لها لكي تكف عما هي فيه. ولم يصدر منها لا في المرة الأولى، ولا في الثانية، نأمة تعليق على الأمر ناهيك عن نفي، ولو تجملاً، لاتهامات ثقيلة من مجلس في خطر مجلس الأمن. وكيف لها أن يقرصها النقد ولم تتعوده. فإذا اختلفت في الداخل تشققت. وحماها حلفاؤها في المعارضة المدنية للإنقاذ من قولة مؤاخذة عن أخطائها الكبيرة مثل غزوة أم درمان، أو مقتلة أب كرشولا، وأبو قمرة، والتصفيات الإثينة داخلها. وكان اسم التواطؤ هو “لا معارضة لمعارض” والمعارض المسلح خاصة.
وكان هذا المبدأ انتهازياً بوجه من الوجوه. فمعلوم أن المعارضة المدنية انتهت إلى أن سقوط الإنقاذ سيتم عن طريق “الانتفاضة المحمية” بتشديد على المحمية. وكان للمسلحين من شعبية الجنوب إلى تحرير دافور اليد العليا طالما صاروا الطليعة وطالما أخلت المعارضة المدنية يدها من الجماهير لمغادرتها ميادينها التقليدية مثل النقابات. وبلغت في هذا الجفاء لمواقعها التقليدية أن صار لها اتحاد نقابات شرعي في المهجر. فكان صمت المعارضة المدنية عن انتهاكات المسلحين قلة حيلة وعشماً أن يقتلعوا لها الإنقاذ، التي غلبوا فيها حيلة، بالسلاح. ومكنت الحركات لعصمتها من النقد باتهام كل من يمسها بكلمة ب”الجلابي” و”حزازات المركز”. وجدت علينا حكاية “ما بين الكباري” هذه الأيام.
وما نفعت الحركات المسلحة هذا العصمة عن النقد؟ أضر بها غاية الضرر. فلا أحصي المرات التي نبهتها إلى كلمة غراء لأمليكار كابرال قائد حرب التحرير ضد البرتغاليين في غينيا بيساو. قال كابرال إنهم مناضلون مسلحون لا عصبة مسلحة يرواح هنا بين “militants” للأولى و “military” للثانية. فعزة المناضل بوعيه وأنه سمكة في بحر الناس بينما عزة العصبة بسلاحها “تتحرر” أول ما “تتحرر” من الناس الذين كانوا بدء انفعالها بالظلم. ويصلح سلاحها في كل زمان ومكان.
لمّا تمتعت الحركة الشعبية الجنوبية بالعصمة من النقد لم تجد عاصماً لها من زج الجنوب بعد الاستقلال في حرب أهلية جنوسايدية ملعونة. لو أنسى لا أنسى ما انحفر في ذاكرتي من بشاعة قتل المرضى على أسرتهم في العنابر مما لم نسمع به من قبل. وأشفق الدم الجنوبي المسيح مرة ثانية. فسعى البابا فرانسيس لقادة الجنوب في أبريل ٢٠١٩ ليجثو على قدميه، ويقبل حذاء سلفا كير يدعوهم للحفاظ على السلام الهش الذي وقعاه بعد حرب أهلية كئيبة.
ينبغي أخذ ما حذر مجلس الأمن حركات سلام جوبا منه بوقار. فهذا قول ثقيل. ونطلب من مجلس السيادة أن يقف على هذه المسألة ويعرض مغبتها على الحركات المعنية حتى تنصلح. وإلا سنصحو ذات يوم وقيادات في الدولة السودانية إما على قائمة عقوبات تشل من حركتها، أو مطلوبة أمام العدالة الدولية. وكأن أبوزيد لا غزا ولا شاف الغزا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.