الهويّة والصراع الاجتماعي في السودان (4)

0 72

.

من أهم العوامل التي ازكت نيران الصراع الاجتماعي حول الهويّة والتفرقة العنصرية : سياسة الاستعمار التي قامت علي ” فرّق تسد” ، والعقلية الاستعلائية للطبقات والفئات الحاكمة التي ارتبطت مصالحها الطبقية مع الاستعمار في الشمال باسم العروبة والإسلام، كما يتضح من الآتي:

– خلال فترة الحكم الإنجليزي المصري ” 1898ـ1956″ ، تمّ تكريس الانقسام القبلي والطائفي والإدارة الأهلية في مواجهة الخريجين، وعزل مناطق الجنوب ودارفور وجبال النوبا والنيل الأزرق عن الشمال من خلال سياسة “المناطق المقفولة”، مما عرقل التنمية المتوازنة، والتفاعل الطبيعي والوحدة بين قوميات وقبائل السودان.

كما ساعد الاستعمار في انفراد المؤسسات التبشيرية ولحوالي نصف قرن بالتعليم في الجنوب وقاومت هذه المؤسسات أي محاولات لتعليم حكومي مستقل عنها حتى عام 1948م، علما بأنها كانت محدودة القدرات والإمكانيات لدرجة انها كانت تتلقي مساعدات من الحكومة في فترات مختلفة للتوسع في التعليم . ورغم ذلك عارضت تلك المؤسسات التوسع في التعليم وسط الجنوبيين بطريقة مستقلة عنها ، أي عارضت إدخال تعليم حكومي أو أهلي سوداني في الجنوب ، فلا المؤسسات التبشيرية وإمكانياتها المحدودة استطاعت بمفردها ان توسع من قاعدة التعليم وسط الجنوبيين ، ولافتحت الطريق لتوسيعه بطريقة حكومية او أهلية أخرى .

– حتي عام 1948م كان الشرط لتلقي التعليم بواسطة المؤسسات التبشيرية هو اعتناق المسيحية وهذا جانب سلبي اذ انه ربط تلقي التعليم باعتناق المسيحية او التعميد . مما يشير الا ان التعليم لم يكن ديمقراطياً . مما يحرم الاغلبية الوثنية من التعليم من ابناء الجنوب .

– اتخاذ وسائل قسرية من السلطات البريطانية مثل :-

* فرض اللغة الانجليزية كلغة رسمية.

* مقاومة مساواة اجور الموظفين الشماليين والجنوبيين .

* توجيه التعليم في وجهه دعائيه ضد الشماليين عموماً باعتبارهم احفاد تجار الرقيق دون الشرح الموضوعي لجذور تجار الرقيق .

* ركز التعليم التبشيري في البداية علي أبناء زعماء القبائل وابناء الرقيق الذين تم تحريرهم مع بداية الحكم البريطاني وهذا كان له الأثر في خلق بعض الكادر الجنوبي الأول من السياسيين الذين تلقوا توجيهات خاطئة بواسطة تلك المؤسسات ضد الشمال والشماليين عموماً.

التعليم التبشيري لم يكن موحداً ، بل ان كل إرسالية كان لها نظمها التعليمية الخاصة بها وبعضها كان يركز علي التعليم النظري والبعض الآخر مثل (الإرسالية الكاثوليكية) ركزت علي التعليم الفني والمهني .

وعدم التوحيد هذا لم يسهم في خلق شعور قومي موحد وسط الجنوبيين . مما اسهم في تعميق الخلافات والصراعات القبلية وسط المثقفين الجنوبيين فيما بعد .

2

العقلية الاستعلائية

المقصود بالعقلية الاستعلائية هي تلك الحالة الفكرية والعقلية التي تنظر للقبائل الزنجية في الجنوب في وضع اقل أو ادني ، أي النظرة العنصرية أو العرقية.

رغم زوال نظام الرق نهائياً كتشكيلة اجتماعية تقوم علي استغلال الانسان للانسان بالاستحواذ علي كامل عمله مقابل معيشة الرقيق وأولادهم، وكتجارة مع بداية القرن الماضي الا ان البنية الفوقية لهذا النظام ظلت وستظل مستمرة ، فالبنية الفوقية (التصورات والموروثات الأخلاقية والدينية والفلسفية،والفكرية) تحتاج لصراع طويل لتغييرها ، ولاتزول تلقائياً بزوال اساسها المادي .بل تستمر لفترة طويلة حتي بعد زوال اساسها المادي أو الاقتصادي،فالعلاقة بين البنية التحتية (الاقتصادية) ،والبنية الفوقية ليست آلية (ميكانيكية) فهي علاقة انعكاس معقد .

استمرت العقلية الاستعلائية وسط بعض الشماليين التي تعامل الجنوبيين وكأنهم اقل في الحقوق الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو المهنية أو الاجتماعية بين الشماليين والتي تتعامل معهم من خلال الاستعلاء والنظرة العرقية المتعصبة وسط بعض الجنوبيين استمرت آثار المعاملة غير الإنسانية أثناء تجارة الرقيق واستغلال الجلابة لابناء الجنوب .

استمرت وسوف تستمر هذه الرواسب التي خلقت جرحاً لن يندمل بسهولة من الأحقاد والضغائن الناجم عن اضطهاد القرون ، “وتبقي حزازات النفوس كما هيا”، كما قال الشاعر وهذه حقيقة موضوعية لانقفز من فوقها ويجب مواجهتها ومناقشاتها بجرأة ومعالجتها من خلال العمل الفكري الثقافي الدؤوب ومن خلال التوضيح والشرح وتصحيح العلاقة بين الشمال والجنوب والاعتراف فعلاً لا قولاً بالمساواة التامة بين قبائل وشعوب الجنوب والشماليين وحسب مواثيق حقوق الإنسان والاعتراف فعلاً لا قولاً بالفوارق العرقية والثقافية .

كما أن هذه المشكلة يحلها التطور الإنساني والفكري والثقافي العام للإنسان السوداني في الشمال والجنوب .

هذا إضافة للعوامل الأخرى منها التطور الاقتصادي والاجتماعي غير المتوزان بين الشمال والجنوب والذي كان له انعكاسه في تعميق جذور المشكلة .

3

العقلية الاستعلائية كانت واضحة منذ ظهور الحركة الوطنية الحديثة خلال ثورة 1924م ومعلوم أن بعض قادة جمعية اللواء الأبيض كانوا من القبائل الجنوبية أو الزنجية مثل: علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ. الخ، وان أحراش الجنوب كانت معقلاً من معاقل ثورة 1924م، ومعلوم ايضاً أن بعض القيادات الطائفية والقبلية وكبار التجار وكبار الخريجين الذين وصلوا لمراكز إدارية مرموقة في جهاز الدولة الاستعماري كانوا ضد جمعية اللواء الأبيض وعلي وفاق مع الإنجليز وعلي خلاف مع شعار “وحدة وادي النيل” الذي كانت ترفعة جمعية اللواء الأبيض، وكانت الجمعية ” لا تؤمن بالفوارق الاجتماعية ولا بالعنصرية” وحاربت الجمعية القبلية في أبسط صورها” ( للمزيد من التفاصيل راجع : مها عبد اله حاج الأمين: عبيد حاج الأمين، جزيرة الورد ط2 2017 ) .

جاء في دستور جمعية اللواء الأبيض الآتي:

– جمعية اللواء الأبيض جمعية سودانية قبل كل شئ، سودانية بأوسع الكلمة. وغرضها الأساسي تحرير الوطن المعذب من رق العبودية وخلاصه من يد المستعمر الغاصب ( مها عبد الله مرجع سابق ص ، 183- 184).

كما برز الصراع الاجتماعي حول الهوّية السودانية في المقدمة التي كتبها سلمان كشة لكتاب ” نسمات الربيع” وهو كتاب اصدرته جمعية الاتحاد السوداني يحوي أشعار مناوئة لمظالم الانجليز ، جاء في مقدمة سلمان كشة ” البلد الطيب يخرج نباته الطيب بإذن الله ، شعب عربي كريم .الخ”، احتج علي عبد اللطيف علي وصف الشعب السوداني” شعب عربي كريم”، وطرح البديل ” شعب سوداني كريم ” ، أراد أن يقول لا فرق بين عربي وجنوبي”، وكانت حركة اللواء الأبيض قومية انتخبت علي عبد اللطيف رئيسا لها ، وضمت أعضاء من اصول قومية مختلفة زنجية ونوبية وعربية وسودانيين من أصول مصرية” مولدين.الخ”، فكان من قياداتها : الملازم علي عبد اللطيف ، عبيد حاج الأمين ، موسي لاظ ، حسن صالح المطبعجي، مزمل علي دينار ( ابن السلطان علي دينار)، الأمين ابو القاسم هاشم ” ابن شيخ العلماء ابو القاسم أحمد هاشم”. الخ

في صراع القوي الموالية للاستعمار أثارت النعرة العنصرية التي كان يغذيها الاستعمار من خلال سياسته ” فرق تسد”، وتهدد مصالحها الطبقية، علي سبيل المثال : وصفت (صحيفة الحضارة) جمعية اللواء الأبيض بما يلي ” علي الجمعية أن تدرك أن الأمة تشعر بالإساءة عندما ينبريء اقل الرجال شأناً واوضعهم مكانة في المجتمع بالتظاهر بأنهم يعبرون عن فكرة الأمة ” .

وكاتب صحيفة الحضارة هنا كان يعبر عن العقلية الاستعلائية التي كانت تري في علي عبد اللطيف انه من اقل الرجال شأناً وأوضعهم مكاناً في المجتمع لا لسبب ألا لأصوله الزنجية ومضت المقالة تقول

أن نشاط الجمعية (يسبب الإزعاج للطبقة التجارية ودوائر المال) وناشدت جميع الوطنيين الحقيقيين (إلى سحق أولاد الشوارع والموالين لمصر) وفي مقالة أخري وصلت صحيفة ” الحضارة” إلى حد القول (أن أمة يقودها علي عبد اللطيف هي أمة وضيعة).

العقلية الاستعلائية هنا كانت واضحة في عدم الاعتراف بالحقوق السياسية للعناصر الأفريقية أو الزنوج قبل الاستقلال والإصرار علي الأجر غير المتساوي للعمل المتساوي . الخ . ولم تعترف الأحزاب الكبيرة للجنوبيين بأي وضع خاص في إطار السودان الموحد (فيدرالية تقرير المصير)، والحكم الذاتي وحق تقرير المصير ولم تنتبه تلك الأحزاب ألا بعد تمرد عام 1955م .

وهذا نتاج نضال الجنوبيين والقوة الديمقراطية في الشمال وتطور الفكر الإنساني الرافض للتفرقة العنصرية والتمييز بين الناس علي أساس اللون او الجنس او العرق .

3

ومن الأشكال الجديدة للاستغلال التي كانت تعبر عن العقلية الاستعلائية كانت ضريبة الرأس والضرائب الباهظة علي الأبقار وعمل السخرة ، والأجر غير المتساوي بين العمال الجنوبيين

والشماليين ومحاولات فرض اللغة العربية والدين الإسلامي علي الجنوبيين بالقسر .

* مع نهوض الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينيات واوائل الخمسينيات من القرن الماضي نال الجنوبيون بعض الحقوق مثل:-

أ- الحقوق والحريات الديمقراطية والمدنية .

ب- كسر طوق المناطق المقفولة .

ج- المشاركة في الانتخابات البرلمانية .

د- الأجر المتساوي للعمل المتساوي بين الموظفين الشماليين والجنوبيين.

هـ- الزيادة في التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية .

* الاستعلائية ايضاً تجلت في الوعود التي كان يقدمها زعماء الأحزاب الشمالية الكبيرة للجنوبيين في أول برلمان سوداني ولم يتم الوفاء بالعهود، مثال: جماعة بولين الير (1954ـ1955م) والتي وثقت بشكل مطلق في الحزب الوطني الاتحادي الذي لم ينجز وعودها في التنمية الاقتصادية ، والأجر المتساوي للعمل المتساوي، ومناصب معقولة في السودنة ، إلغاء ضريبة الدقنية ،. الخ، اضافة لعدم تنفيذ وعد الأحزاب الحاكمة للجنوبيين بالفيدرالية عشية الاستقلال .

كما نشير إلى خطأ بعض الساسة الجنوبيين الذين كانوا يؤيدون الحزب الذي كان يدفع اكثر لهم ، وخطأ هؤلاء لايقل عن خطأ الذين يدفعون لهم لكسب أصواتهم في البرلمان . وهؤلاء كانوا من أسباب تفاقم المشكلة .

4

كانت العقلية الاستعلائية واضحة في النظم العسكرية التي صادرت الديمقراطية في الشمال والجنوب والتي اعتمدت القسر والعنف والحل العسكري للمشكلة ومحاولة فرض الإسلام واللغة العربية بوسائل قسرية وقهرية ، لا بالتي هي احسن وبوسائل سلمية واقتصادية وطبيعية وإنسانية وهذه العقلية لاتقل في دوافعها وضيق افقها عن عقلية المبشرين المسيحيين الأوائل الذين حاولوا فرض المسيحية من خلال عزل الجنوب عن الشمال بوسائل قسرية.الخ . والعقلية الاستعلائية أنتجت وسط بعض الساسة والقادة الجنوبيين رد الفعل المتطرف غير الموضوعي ضد كل ما هو شمالي وعدم إمكانية أي تعايش بين الشمال والجنوب باعتبارهما قومتين مختلفتين تماماً ثقافياً وعرقياً ، وبالتالي فان الحل الوحيد هو الانفصال كما حدث بعد اتفاقية نيفاشا ، أي الحل الأحادي الجانب الانفصال حتي لوكان بوسائل قسرية والحل الأحادي الجانب الأخر هو حل بعض الأحزاب الشمالية التي تري الحل في الوحدة حتى لو كانت بوسائل قسرية .

الانفصال القسري أو الوحدة القسرية هما شعارا قطبا الغلو والتطرف من بعض الشماليين والجنوبيين وتوحيد الوطن كان ولا زال يجب أن يقوم علي حرية الإرادة والاختيار وعلي أسس ديمقراطية .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.