الهويّة والصراع الاجتماعي في السودان (5)

0 76
.

1

رغم المؤثرات الخارجية والتفاعل مع العالم الخارجي أخذا وعطاءا ، كان للهوّية أو الثقافة السودانية استقلالها وخصوصيتها ،ودخلت المؤثرات الخارجية في نسيج الهويّة السودانية. فالثقافة السودانية كما هو معلوم منظومة شاملة متفاعلة لمكونات جزئية من الأفريقية ( نوبية ، بجاوية ، زنجية) والعربية الإسلامية والفكر الإنساني الحديث الذي شهده السودان منذ بداية الحكم التركي- المصري، بالتالي من المهم النظرة الشاملة لها، ويحدث الصراع و الخلل والتصادم اذا تمّ ارجاع الكل للجزء باعتقاد أن الثقافة السودانية عربية أو افريقية، بالتالي لابد من الحفاظ علي تماسك ولحمة السودان مثل الصورة المتعددة الألوان التي تؤلف أشكالا هندسية جميلة، والمرصوصة واحدة جنب الأخر كالفسيفساء أو الموزايك، باعتبار ذلك مصدر قوة واخصاب، ويغلق الطريق أمام القوي الاستعمارية الهادفة لاضعاف وتفتيت وحدة السودان لنهب موارده .

رغم التفاعل بين كل مكونات الثقافة السودانية الذي نتج منها شئ جديد أرقي استوعب المنجزات الحضارية المادية والفكرية السابقة ، الا أنه كما أشرنا سابقا كان لها استقلالها الثقافي أو الحضاري ، نلمسه في الآتي:

– الاستقلال الثقافي الذي نلمسه في استنباط أبجدية للغة المروية واللغة النوبية بعد تجاوز اللغة المصرية القديمة ( الهيوغلوفية). .

– الاستقلال الديني الذي عبر عته اعتماد الهة محلية جديدة في مملكة مروي مثل الإله (أبا دماك، سبوي مكر. الخ)، اضافة لخصوصيات المسيحية والإسلام وتفاعلها مع الموروثات المحلية وما نتج عنهما من مسيحية سودانية في ممالك النوبة المسيحية، واسلام سوداني متميز كما بدأ في ممالك ( الفونج ، الفور ، تقلي.الخ) .

2

بعد اتفاقية البقط تزايد دخول العرب السودان وحدث تفاعل بين العرب والنوبة ،وحدثت المصاهرة والاندماج الثقافي ، هذا إضافة إلى غزو المماليك المتكرر لبلاد النوبة المسيحية وتدخلهم في شئونها في أيامها الأخيرة .. كما لعبت الطرق الصوفية دورا كبيرا في نشر الإسلام .. وتوسيع نفوذ المسلمين في مملكة المقرة المسيحية حتى تولى أول حاكم عربي مسلم لملكها ( عبد الله بر شمبو 1317 ه ) .

كانت المسيحية السودانية نتاج تفاعل تعاليم المسيحية كما وفدت من الخارج مع الأعراف والتقاليد الموروثة و الديانات الوثنية السابقة للمسيحية السابقة في بلاد النوبة وانعكاس هذه الديانات علي تشكيل المسيحية السودانية، فكانت المسيحية في السودان تتميز بالتسامح، فكلا الطائفتين اليعقوبية والرومية كانتا موجودتين في بلاد النوبة، اضافة لبعض الخصوصيات الأخري مثل: كان من عادة ملوك النوبة أن يكون ملكهم مكرزاً في رتبة الكهنوت، أي أن ملك النوبة كان ملكاً وقساً في نفس الوقت، فضلا عن أنهم تخلصوا من ظاهرة الأساقفة الأجانب ، و تمسكهم بالختان الفرعوني والعماد بالنار، والأخطاء العقائدية الأخرى مثل : الاعتراف بالخطايا، كما كان بعض ملوك النوبة يتخلون طوعاً عن ملكهم ليتفرغوا للحياة الرهبانية فضلاً عن مديح الصليب الذي كان يميز المسيحية السودانية عما سواها، زد علي ذلك صورة الملوك المرسومة في الهيكل وفي أشرف مكان داخل الكنيسة، والمميزات الخاصة للعبادة الخاصة بالصليب في كنائس النوبة وهي لوحة الثالوث الأقدس ( الأب والابن والروح القدس) والاختلاف في بركة المعمودية.

* ازدهرت الثقافة النوبية ووصلت إلي قمة ازدهارها في القرن العاشر الميلادي وتجلي ذلك الازدهار في التحف الأثرية القيمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الأواني الفخارية التي تدل علي مستوى رفيع للثقافة النوبية.

ومثال كنيسة “فرص” التي أعاد بناءها الياس مطران يدل علي ذلك الازدهار الثقافي فقد تم استخدام القبب بدل السقف المسطح وتم تزيين جدرانها الداخلية بصورة في غاية الفن والجمال .. ويبدو أن “فرص” كانت من المراكز الثقافية لبلاد النوبة كما تشير الكنائس الأخرى التي اكتشفت والتي كانت علي مثال كنيسة فرص.

تطور الفن والمعمار النوبيان وتم إتباع أسلوب جديد في بناء الكنائس، فبينما كانت قديماً تبني علي أعمدة حجر الجرانيت المستدير بقطع كبيرة مستطيلة، وكان عرض الكنائس مسطحاً، أصبح إبتداءاً من القرن العاشر بناء الكنائس علي أعمدة مبنية من الطوب الأحمر علي شكل مربع تستند عليه السطوح المقوسة مع القباب، ورغم أن النوبة تفاعلوا مع الفن البيزنطي إلا أنهم طوعوه وكيّفوه حسب الظروف المحلية وذوق مواطنيهم.

ومن ظواهر ازدهار الثقافة النوبية التوصل إلى تأليف أبجدية من الحروف القبطية واليونانية ثم استخدامها في كتابة اللغة النوبية، ولكن المصادر لم توضح لنا عدد الحروف الأبجدية التي استخدمت في كتابة اللغة النوبية وتطورت هذه اللغة لتكون لغة القراءة والكتابة ولغة الأدب والتجارة والعبادة.

هذا اضافة لاستمرار العادات والتقاليد النوبية في ثقافتنا السودانية مثل : أربعين يوم الولادة ، و”الولد خال” “والخال والد” كامتداد لنظام الأمومة الذي كان سائدا في ممالك النوبة ، واستمرار عناصر الحضارة النوبية في الجوانب المادية والشعبية ، ووجود مفردات نوبية كثيرة في اللغة العربية.

( للمزيد من التفاصيل راجع تاج السر عثمان : تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي ، دار عزة 2003).

3

وفي مملكة علوة المسيحية ( سوبا ) كان المسلمون متواجدين قبل زمن طويل ، وانتشرت القبائل العربية في سهول ومروج أرض علوة وخاصة أرض الجزيرة .. وبمرور الزمن سقطت مملكة علوة في يد العرب المسلمين ( تحالف أنصار عبد الله جماع ) وبعد ذلك قام الحلف الفونجي العبدلابي ، والذي أدي لقيام مملكة الفونج ( السلطنة الزرقاء : 1504 – 1821 ) التي حدث فيها التفاعل والتمازج بين النخلة والأبنوس أو بين المكونات الثقافية والعرقية العربية الأفريقية ، التي اعتبرها بعض المؤرخين والكتاب والشعراء نموذجا للانصهار مثل : محمد عبد الحي في نشيد “العودة الي سنار” الذي جاء فيه :

الليلة يستقبلني أهلي

أهدوني مسبحة من أسنان الموتي

إبريقا جمجمة

مُصلاة من جلد الجاموس

رمزا يلمع بين النخلة والأبنوس

كانت ثقافة الفونج حصيلة تفاعل بين الثقافة الإسلامية والموروث المحلي في مضمار اللغة العربية وكتاب طبقات ود ضيف نموذج للاصالة والكتابة بالعامية والفصحي، والذي عبر عن ثقافة وواقع انسان الفونج المادي والروحي، اضافة للشعر الغنائي والأغنية الدينية (المديح) وتفاعل الوافد من إيقاعات الطرق الصوفية (قادرية ، سمانية ، ختمية ) مع الإيقاعات والالأت المحلية (طبل ، طار ، كاس ، نوبة ، … الخ) مما أدي إلى إيقاعات جديدة عبرت عن تفاعل الوافد مع المحلي، وكان من خصوصية الثقافة طابعها الصوفي الغالب ، والذي أستمده الفونج من حالة العالم الإسلامي الفكرية التي كانت سائدة فيه والتي كانت تقوم على النقل والجمود ( للمزيد من التفاصيل : راجع تاج السر عثمان الحاج: لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004). .

أما في غرب السودان فقد قامت ممالك مثل: الداجو والتنجر والفور والمسبعات وتقلي ، وفي مملكة الفورعلي سبيل المثال : حدث تفاعل تعاليم الإسلام مع الموروثات المحلية ونشأت بنية ثقافية – فكرية كانت في تفاعل مع القاعدة الاقتصادية ، علي سبيل المثال: استنبط سلاطين الفور نظاما سياسيا وإداريا استند في تكوينه إلى الإسلام والأعراف المحلية، وبعد انتشار الإسلام تفاعل مع الموروثات المحلية في المنطقة مما أدى إلى بروزه في دار فور يشكله المتميز ، كما أصبحت اللغة العربية أداة التدوين بجانب لغة الفور التي ظلت لغة الحياة العامة ، وانتشرت المساجد والخلاوى بالإضافة لسفر أبناء دار فور إلى مراكز العلم كالدامر ، الغبش ، كترانج ، الأزهر طلبا للعلم، أما نظام القضاء فقد استند الي تعاليم الإسلام والأعراف المحلية ، وان سلاطين دار فور قننوا الأعراف في قانون أطلقوا عليه قانون دالي (للمزيد من التفاصيل : راجع تاج السر عثمان الحاج: تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي ، مكتبة الشريف الأكاديمية 2006) .

4

بعد ذلك جاءت فترة الحكم التركي – المصري التي شهد فيها السودان دخول الفكر الإنساني الحديث والأساليب الجديدة في الإدارة والحكم والإنتاج الزراعي والصناعي، وارسال البعثات الدراسية للخارج لتعلم فنون الزراعة والإدارة ، و ادخال التعليم المدني والقضاء المدني، والطب والخدمات الصحية الحديثة ووسائل النقل والمواصلات والارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي.

نتج عن هذا الحكم استنزاف موارد السودان الاقتصادية والبشرية وفرض ضرائب باهظة علي المزارعين والتجار والرعاة والحرفيين ، كانت من الفظاعة مما أدت إلى هجر المزارعين لسواقيهم وأراضيهم وتجميد التجارة والنشاط الاقتصادي، وكان ذلك من عوامل اندلاع الثورة المهدية .

بعد انتصار الثورة المهدية ، قامت دولة المهدية في السودان ، كامتداد للدويلات السودانية المستقلة ، وتم التخلص من الحكم الأجنبي ، وقامت دولة دينية في السودان على أساس الأيدلوجية المهدية . وكان من نتائج ذلك أن تم إلغاء التعليم المدني الحديث ، واغلقت المدارس التبشيرية وتم الاكتفاء بالخلاوى ، وتم إلغاء تعددية الطرق الصوفية ، بل حتى المذاهب الأربعة . أي أن الأيديولوجية المهدية – في جانب منها – كانت أيدلوجية عزلة عن النظام المدني الحديث والفكر الحديث ، ولكن من جانب آخر ، كانت تلك الأيديولوجية نتاج الواقع السوداني في تلك الفترة . ورغم أن جذور فكرة المهدي عميقة في التراث الإسلامي الصوفي وتراث الشيعة ( مؤلفات ابن عربي ، السهر وردي ) ، إلا أن الفكر المهدوى في السودان كان نتاج الواقع السوداني والبيئة السودانية في تلك الفترة ، وكان حصيلة تفاعل التراث الصوفي مع الواقع السوداني . كما عبرت تلك الأيديولوجية في تلك اللحظة عن الحاجة للتخلص من الحكم الأجنبي ، وبهذا المعني كانت تعبيرا عن الوطنية والقومية السودانية في سياقها التاريخي .

5

* بهزيمة الدولة المهدية في عام 1898 م على يد القوات الإنجليزية – المصرية أصبح السودان مرة أخرى تابعا لبريطانيا ، وارتبط بالسوق الرأسمالي العالمي ، من خلال تصدير سلعة القطن . ودخلت النظم الحديثة السودان بشكل أوسع واكبر هذه المرة من فترة الاستعمار التركي . وكان الاستعمار البريطاني يهدف إلى تحويل البلاد إلى مزرعة قطن كبيرة .. لضمان انسيابه لمصانع الغزل والنسيج في لانكشير وبدون انقطاع . ولضمان ذلك قام مشروع الجزيرة ، ومشاريع القطن الأخرى . وقامت شبكة الخطوط الحديدية ، وميناء بورتسودان ، ونشأ التعليم المدني الحديث بهدف خدمة مصالح الإدارة البريطانية لمدها بمستخدمين لتسيير دولاب الدولة ( كتبة ، فنيين ، عمال مهرة . الخ ) ، كما ظهرت الصحافة ، ونشأت نتيجة لذلك طبقات وقوى اجتماعية جديدة : عمال ، خريجون ، رجال أعمال ، رجال إدارة أهلية ، إقطاع وشبه إقطاع ، قيادات دينية .. واتسع دور ونفوذ الطائفية ( ختمية ، أنصار ، هندية .. ) .

وتطور الفكر السوداني بدخول الفكر الغربي الحديث بشكل أوسع وتفاعلت المؤثرات العربية الإسلامية مع الفكر الغربي . كما تفاعل السودانيون مع حركات التحرر الوطني في العالم ( مصر ، الهند .. ) . وقامت التنظيمات السياسية الحديثة ( جمعية الاتحاد السوداني ، جمعية اللواء الأبيض ) بعد فشل المقاومة القبلية والدينية السابقة في بداية القرن العشرين .

ودخلت التيارات الفكرية الحديثة السودان بشكل أوسع وكان من ضمنها الفكر الماركسي والاشتراكي والفكر السياسي الغربي الليبرالي ، فكر الأخوان المسلمين السودان، الفكر القومي العربي. الخ، وتفاعلت تلك الأفكار بهذا القدر أو ذاك مع الواقع السوداني.

كما شهدت فترة الحكم البريطاني تطورا في مختلف ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد . وقامت نظم إدارة حديثة ، وتعليم مدني حديث ، وتطورات اقتصادية ( مشروع الجزيرة ، السكك الحديدية ، النقل النهري ، الصحافة ، الطباعة ) ، وتنظيمات سياسية جديدة بعد أن فشلت المقاومة القبلية والدينية الأولي لللانجليز ( قبائل جنوب السودان وجنوب كردفان ووسط السودان ) ، وهزيمة السلطان على دينار في دار فور عام 1916 م .

قامت تنظيمات الاتحاد السوداني واللواء الأبيض ، التي قامت على أسس وطنية وسياسية ، وطرحت جمعية اللواء الأبيض قضية الهويّة السودانية ، وتبلورت قضايا السياسة السودانية المعاصرة بشعاراتها : وحدة وادي النيل ، وشعارات السودان للسودانيين ، وغير ذلك – خلال ثورة 1924 م . كما قامت الجمعيات الأدبية والثقافية بعد ثورة 1924 .. ونشأت الصحافة الوطنية ( النهضة السودانية ، الفجر .. الخ ) . وقامت الأندية الثقافية والرياضية والمهنية ( أندية الخريجين ، أندية العمال ، الأندية الرياضية .. الخ ) ، وقام مؤتمر الخريجين .

وظهرت تيارات تدعو لاستقلالية وتعميق خصوصية وسودنة الأدب السوداني وتكوين أدب قومي واغنية سودانية تعبر عن الواقع السوداني مثل : حمزة الملك طمبل ودعوته إلى شعر سوداني أصيل بدلا من النقل الأعمى لتجارب الآخرين ، وكتاباته المشهورة حول الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه . كما ظهرت كتابات معاوية محمد نور عن طبيعة الإدارة الأهلية التي فرضها الانجليز،و كتابات محمد أحمد المحجوب التي أهمها الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه ؟ وابداع خليل فرح الذي ساهم في تطوير الأغنية السودانية ، كما وضع أساس الموسيقي السودانية . وكان عرفات محمد عبد الله وزملاؤه ، قد أرسوا قواعد الصحافة الوطنية وأرسوا قواعد الحركة المسرحية السودانية .

وظهرت كتابات حول الاشتراكية ، ونظرية التطور ، وكتابات فلسفية ، وكتابات تدعوا إلى تكوين مدرسة تاريخية سودانية علي صفحات مجلة النهضة السودانية والفجر ، هذا إضافة إلى تيارات التحديث والتجديد في الشعر والنثر العربي والفن التشكيلي، كما ظهرت دعوات تعليم المرأة وخروجها للعمل. الخ .

هكذا تبلورت الهويّة الثقافية السودانية في تفاعل مع المؤثرات الخارجية أخذا وعطاءا مع الاستقلالية والخصوصية والأصالة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.